انتفاضة الدمع
ارهاصات الرحيل تنبئ قلبها المحزون بقرب موعده ، وصوت الناعي يتأهّب لنعيه ، وهاهي الأنفاس تترقّب ببطء حلول الفاجعة ، أما براثن الغدر فقد باتت تتربّص بمكرها ، وتحيك خيوط مؤامراتها، وماهي إلا بضع ساعاتٍ حتى رحل الأمان غافياً إلى جنة المأوى ، وخلّف وراءه جراح أمّة وعذاباتٍ جمّة .
رحل المصطفى ، وأبكى قلب الزهراء عليها السلام بكاءًا مراً ، بكت الزهراء حتى عدّت من البكائين الخمسة ؛ لشدة وطول حزنها وبكائها.
فما سرّ هذا البكاء الطويل ؟ وهل من رسالةٍ تريد الزهراء عليها السلام توجيهها عبر هذا البكاء؟ وهل نستطيع اقتفاء أثر هذه الرسالة والعمل بها ؟ وأنّى لنا ذلك؟
إنّ بكاء الزهراء عليها السلام على أبيها رسول صلى الله عليه وآله لم يكن بكاءًا فريدًا فحسب ، بل كان بكاءًا رساليًا ، وإن قيل أنّه جزعٌ إلا أنه لا يدخل ضمن دائرة الجزع المذموم ، إنّما الجزع الذي يعبّر عن الحب والحزن والفقد الشديد لشخص رسول الله ...إذ أنّ المصاب بفقده مصابٌ جلل ، فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام عندما وقف على قبر رسول الله ساعة دفنه :( إن الصبر لجميل إلا عنك وإن الجزع لقبيح إلا عليك ، وإنّ المصاب بك لجليل وإنه قبلك وبعدك لجلل )(1)
الحزن على رسول الله والبكاء عليه كان بما هو رسول الله وخاتم الأنبياء وطريق الوحي الموصول بالسماء ، إذ أنّ الحزن عليه عبادةٌ وتقربٌ لله ، وتعبيرٌ عن الأسف برحيله ، ولايمكن القول بأنّه اعتراضٌ على قضاء الله وقدره، لذا كان حزن الزهراء عليها السلام عظيمٌ بمدى عظمته ، تصف فضة بكاء الزهراء عليها السلام فتقول :(ولم يكن في أهل الأرض والأصحاب والأقرباء أشدّ حزنًا وأعظم بكاءً وانتحابًا على رسول الله من مولاتي فاطمة..)(2)
الزهراء عليها السلام بعد رحيل أبيها تعرّضت لأشد أنواع الاعتداء ، وأعنف أشكال القسوة التي لا تعبّر عن إنسانية ظالميها ، لذا كان لبكائها ونعيها طابعاً مميزًا ، جعل أصحاب الخلافة المغتصبة يعمدون إلى منعها من البكاء ، وإقامة العزاء عند قبره الشريف ، بل منعوا أيّ تجمّعٍ عند القبر والاقتراب منه ، بحجة تحريم البكاء على الميت ، وزعم الثاني أن الله يعذٌب الميت إذا بكى أهله عليه ، وأن النبي قد نهى أن يعدّ قبره عيدًا ، أي مجتمعًا للزائرين ؛ كان ذلك المنع خوفًا من تأثير هذه المجالس على الرأي العام ، إذ أنّهم يعلمون بتأثير الاستجارة بقبور الأولياء والصلحاء وأنّه من العار على ذوي القبر أن يستجير أحدٌ بقبر عظيمٍ لهم ولا يلبّون طلبه ما أمكن.
فكيف إذا كان العظيم هو رسول الله وهم يدركون في قرارة أنفسهم أنّ الزهراء عليها السلام كانت تبكي بهدف اظهار الفاجعة التي حلّت بالمسلمين ، وغياب شخص رسول الله عن الامة ، وانقطاع أخبار السماء لكنهم تغافلوا وانشغلوا بأمر الدنيا والخلافة ، بل كان نعيها أمام الملأ
؛ بهدف اظهار الجريمة التي ارتكبوها بحقها ، وبحق الوصية ؛ وليعلموا أن التجرؤ عليها كان تجرؤًا على الدين والرسالة ، ولو أن رسول الله كان بينهم لما تجرّأ احدٌ على القيام بما قاموا به ، فلم تر بعد رحيله كاشرة ولا ضاحكة كما يقول الإمام الصادق ع (عاشت فاطمة بعد أبيها خمسة وسبعين يومًا لم تر كاشرة ولا ضاحكة ، تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين...)(3)
لم يخف عليهم بأن بكاءها رسالةٌ لإظهار الرفض لما جرى من عدوانٍ غاشمٍ على أهل بيت النبوة والإمامة بل كانوا على علمٍ بأن بكاءها أمام الناس أشدّ وقعًا وبيانًا لما حدث، وقد يسهم بإثارة الرأي العام ضدّهم ؛ إذ كان إدانةً واضحةً لخطّهم الخلافي المعارض لخط السماء ، والذي لم يكن يتوانى عن فعل أيّ شيء ، لذا لجاؤا إلى منعها من البكاء بشتى الوسائل ، معلّلين بأن بكاءها كان يؤذي المسلمين ، لكنه في الحقيقة كان يقضّ مضاجعهم ، ويكسر شوكتهم ، ويضعف من نفوذهم.
لكنها واجهتهم بقوة الحجة عندما ذهبت للمسجد وقبل أن تبدأ خطبتها المعروفة أنّت تلك الأنة ، وبكت حتى ضجّ المجلس لها بالبكاء ، فكان بكاؤها أمام المحافل وعلى مرأى ومسمع الناس كفيل بإثارة المشاعر واستعطاف القلوب ، بل واستنهاض العقول وتحريكها نحو الحق ، مما جعل البعض يشعر بالذنب لخنوعه وتقاعسه عن نصرة أهل بيت النبوة.
إن بكاء الزهراء ع لم يكن بكاء ضعفٍ وانكسار ، بل كان بكاء وعيٍ ومعرفة بما حلّ بالأمة بعد فقد رسول الله ، وبما سيحلّ بعده من ويلات؛ لذا كان بكاؤها أمام الملأ مقروناً بالعمل والكلمة ، وإلقاء الحجة وإرشاد هؤلاء المتخاذلين الذين فقدوا قائدهم ، وهاهم يفقدون كرامتهم بالانصياع لأمر السلطة الغاشمة والاستسلام ، وعدم مواجهتها بالرفض بل بالإذعان.
لا شك أنّ كل حركة وكل سكتة في حياة السيدة الزهراء هي رسالةٌ في حدّ ذاتها ،ولو شاء الله لها بقاءً طويلاً بعد أبيها لاستحالت المدينة الى جبهة معارضة ، ومركز كل رفضٍ و استبداد ، غير أنّ عمرها الشريف لم يدم طويلاً ، لكن مواقفها السياسية والاجتماعية كانت عميقة بعمق الحدث ، فكان بكاؤها عليها السلام حقيقةً على حال الأمة التي فقدت قائدها ، وأصبحت رهينةً في قبضة حفنةٍ من الرعاع ؛ فكان بكاء رسالةٍ لا إلى هؤلاء فحسب ، بل إلى كل الشرفاء في العالم ،,وكل من يعيش في زمن الانتظار الصعب ؛ كان رسالةً ترمي من خلالها:
1-التنبّه إلى أنّ فقد القائد والموجّه هو أصعب ماتواجهه الأمة ، ومن أشدّ المحن التي تتعرّض لها ، فكيف تغفل عن فقد القائد وتنشغل عن انتظاره والاستعداد لظهوره.
2- تحويل حالة الحزن والبكاء على غياب الإمام المنتظر إلى رسالة وعيٍ وعملٍ وإعداد ، مدركين خطورة غياب المخلص ، ومدى الحاجة إلى وجوده ، وذلك بنشر الثقافة المهدوية ، وإيضاح فلسفتها للمجتمع خاصة للأجيال القادمة بهدف إنشاء جيل واعٍ و منتظِر.
3- برمجة البكاء وحالة الحزن إلى سلوك عملي ومنهاج حياة، إذ أنّ البكاء المجرد من أي حركة خارجية وفعل هو بكاء جامد ، يشلّ حركة الإنسان ويحيطه بهالة سوداء ، تشلّ من تفكيره ، وتضعف مقاومته أمام المصائب ، بل وتجعله أسيرًا للخنوع والاستسلام ، وبالتالي يؤدّي به إلى الجزع والقنوط .
4-نهج السيدة الزهراء عليها السلام وطريقة تعاملها مع الطغاة في زمنها نهجٌ مميز ، وطريقة حكيمة في كيفية السيطرة على الأمور وإدانة الخصم من حيث لا يدري.
5- إنّ البكاء دون توجيه رسالة يسهم في إفشال القضية، وطمس معالمها ، ومحو آثارها ، فها نحن نرى الإمام السجاد عليه السلام سار على نهج جدته الزهراء فكان بكاؤه إعلامًا حراً أوضح معالم القضية الحسينية ، وجعل من بكائه وسيلةً فاعلةً لاستثارة الضمائر والعقول ، حيث تزامن مع تبيانه لأبعاد ثورة كربلاء ، وتسليط الضوء على مظلومية الإمام الحسين عليه السلام ، فكان أحد نتائجها إثارة عواطف الناس واستنهاضهم للإنتقام من قتلة السبط الشهيد ، بل وإصلاح كثيرٍ من النفوس ، والتذكير بالدار الآخرة .
وعلى العكس إذا لم يكن البكاء فاعلاً أدّى بصاحبه إلى النقص لا إلى الكمال ، وجعل قضيّته تضمحل مع مرور الأيام ، ونحن بدورنا علينا أن نوجّه بالبكاء أولًا رسالة لأنفسنا بغية الإصلاح والإعداد وتمهيد الأرض لظهور الحق المنتظر ، ومن ثمّ إلى من حولنا بهدف توحيد الصّف والالتفاف حول القيادة ، والعمل يداً بيد للخروج من شرنقة الدعاء والتباكي بلا عمل ، إلى انطلاقة الإعداد و والاستعداد والتمهيد لظهوره المبارك.
اللهم اجعلنا من أنصاره وأعوانه والذابين عنه والمستشهدين بين يديه يوم يأخذ بثأر جدّته الزهراء عليها السلام وعترتها الطاهرة.
1_نهج البلاغة المختار من حكم أمير المؤمنين ع 292
2_البحار 174/ج15
3_الكافي 3/228
أفراح آل إبراهيم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق