*طريق الجنة*
مريم فريد
الكلمات تتسلّل مني كما تتسلّل قطرات الماء من بين الأصابع , ربما لعجزها أن تصف الأحداث كما حدثت وكما ستحدث ,وكيف للغة مكوّنة من حروف مجتمعة أن تصف أو أن تفسّر حقيقة ذلك الطريق , حتى كلمة "طريق" هنا عاجزة أن تعبّر أو ان تشرح ماهية طريق الجنة ؟؟ فهذا الطريق يختلف وإن كان في شكله في سائر الايام يشبه كلّ الطرق ، شارع من اتجاهين ذهاب واياب وثلاثة أرصفة , رصيف في الوسط ورصيف على جانب كل شارع واعمدة كهرباء على امتداد الشارع , الإختلاف الوحيد في هذا الطريق والذي لا يفهم معناه إلا من سار فيه في ذاك الوقت من الزمان " الأرقام " العمود الكهربائي يحمل رقمًا وكلّ رقم يرمز إلى مضيف ربما يكون هو قصد الزائر أو قصد خادم المضيف لكن في النهاية تنتهي الأرقام عند الألف والخمس مئة وخمسين وهوالهدف.
مقدمتي تبدو كأحجية أو شرح لخريطة ما , لكنها لمن سار هذا الطريق أو سار لبضع خطوات فيه هي استدعاء الذكريات الحية المخزنة في الذاكرة إلى حالة الشعور والإحساس لنعيش الأحداث من جديد بصورة أو صوت أو شريط مسجّل .
الرحلة الاولى كانت بدايتها من برزخ علي عليه السلام من مقبرة السلام , ونحن نبدأ الرحلة كأنّا من القبور بعثنا , لأنه بتلك الخطوات تنتقل من عالم إلى عالم مختلف فالحياة قبلها كأنما هي موت بعد ما تنهي ذلك الطريق وفعلا هو كنهر الحياة يجري ويجري لايتوقف ليلا او نهارًا لكنه نهر من البشر فى الأثر. إنّ قراءة الأسماء التي على القبور تورث النسيان , وأنا اتنقّل بين تلك القبور ربما تعمدت لاشعوريًا أن اقرأ الأسماء فكل الأسماء تقريبا اقترنت بلفظ شهيد قبله , ومع كل اسم حاولت حفظه نسيت حدثًا واسمًا كنت أتمنى أن أسقطهم من ذاكراتي منذ سنوات , لأنه لابد من إسقاط أو نسيان شخص أو ذكرى قديمة حتى يحلّ مكانه حدث جديد لنبدأ من جديد .
لوهلة تعتقد أنك ستسير وتسير وإذا أخذك التعب ستتوقف ولن تكمل المشي , ولكن ما أن تبدأ لا تستطيع التوقف حتى تصل إلى نقطة النهاية , وصفنا أحدنا برادة الحديد التي تنجذب إلى المغناطيس طريق بشري متّصل " يسير " لايتوقف , يتوقّف البعض لينام عدة ساعات أو يتناول بعض الطعام لينطلق من جديد , الطريق الوحيد الذي لاتحتاج فيه للمال للنوم او للطعام , كل شئ مجاني.
أحد المشاة اتصل بأهله في الصين ليخبرهم أنّ هذه هي المرة الاولى التي يرى فيها مطعمًا مجانيًا بطول ثمانين كيلو متر ؟؟
في هذا الطريق يتنافس الجميع ليقدّم لك خدمته المجانية من شيخ القبيلة الوقور الذي يتوسّل إليك أن تقبل ضيافته إلى المرأة إلى الأطفال الصغار الذين يقفون في وسط الطريق يحملون كؤوس الماء والمناديل الورقية .
في كل خطوة تخطوها تعيد جميع حساباتك , تعترف بتقصيرك بعبثك بلهوك بذنوبك بغرورك تعيد تربية نفسك تنسى حتى عاداتك وتحفظك في الطعام والشراب تمدّ يدك بكل أريحية وحب ، وأنت تتناول كأس الماء من " المغطس" دون أن تنظر إلى الماء أو إلى الكأس عيناك فقط معلّقة بعيني ذاك الصغير" ّأو تلك الصغيرة" اللتان تتألقان فرحًا وأنت ترتشف الماء منهم ,
أما كوب شاي أبو علي فيغدو رفيق الرحلة بل وقودها كما يحلو لبعض المشاية أن يسمّوه ريدبول المشاية , طعم كطعم الحياة للمولود الجديد ونحن هو .
يشاركك الملايين في خطواتك وان اختلفت الطريقة ,لكن الصمت هو سيد الطريق إلا من أصوات التسجيلات التي تعلو لتيقظ التساؤل عقب التساؤل , عندما تراقب الماشين تعتريك الدهشة و الحيرة و الاستغراب الكل يسير في نفس الاتجاه نفس الطريق بنفس الهمة والاصرار على الوصول , كل الجنسيات كل الاعمار وعندما تجلس لترتاح قليلا ..تجد نفسك في مقابل مجموعة من العلماء بكامل زيهم العمامة العباءة لكن تتفق أقدامهم مع الباقيين في ارتداء الشحاطة حذاء العامة , تتوقّف لتتناول كأسًا من شاي أبو علي تلتفت لترى أمامك ذاك الشاعر الذي ملأت قصائده الدنيا , بل لعلك تلتقي شخصية من بلد مجاور تعرّفت عليها في احدى المناسبات الدينية , ربما تفترق الخطوات وتتباعد الاجساد مع من رافقنا في بداية الرحلة لكن ومن حيث لا تشعر يجتمع قلبك مع ملايين القلوب , في ذات الوقت وأنت ترقب الأقدام وكيف تسير ؟؟
وحتى عندما يتسلّل الظلام شيئًا فشيئًا تتوقع أن يتوقّف النهر البشري ليرتاح أو يغفو عدة ساعات لكنه على العكس يزاداد قوة وجريانًا كأنما نشط من عقال , العينان تتعلقان على جانبي الطريق بين الفينة والأخرى للجهة اليسرى جهة المواكب ربما اتفقت على لقاء من افترقت عنهم في هذا الموكب أو ذاك وإذا تشابهت الأسماء وما أكثر ما تتشابه نظرت إلى الجهة اليمنى إلى عمود الكهرباء حتى تتأكد أنّ هذا هو المكان المطلوب , وإن لم تكن على موعد إلا مع نقطة الهدف تتعلق عيناك فقط بالرقم على العمود في نقطة البداية تشعر أنّ الطريق طويل طويل وتحدّث نفسك متى أصل أقلا إلى نصفه ولكن عندما تقترب من المنتصف وتثقل قدماك لا بفعل المشي بل لأنّ العد التنازلي لنهاية الطريق بدأ فكلما ارتفع تعداد الأعمدة ابتدأت خطواتك بالتناقص, وكلما اقتربت أكثر ثقلت أقدامك أكثر حتى تضطر إلى أن تجرّهم جرًا عند الألف والخمس مئة تحسّ كأنّما تحمل الطريق على كتفيك , بل كأنك تودع حياتك الماضية فمع وقع كل خطوة تعاني مخاض ولادة روحك الجديدة , وكلما اقتربت ازداد الألم والحزن لفراق هذا الطريق ففيه تغدو النفس شفافة صادقة ليس بينها وبين الله حواجز , طريق الجنة هكذا يصف البعض وسيلة السفر ألى ارض كربلاء لأن كربلاء هي جنة الحسين عليه السلام ولكنّ أغلب من يمشي إليها يدرك أنّ طريق الحسين عليه السلام هو الطريق الحقيقي للجنة .
عندما تقترب ترى الملايين يقفون عند أعتاب الجنة " كربلاء" يسلّمون يقرؤون الزيارة ويعودون ، نعم يرجعون من حيث أتوا ليعطوا للغرباء أمثالنا فسحة للزيارة , هذا هو طريق الحسين عليه السلام الذي اعتادوا خطواته منذ نعومة أظافرهم .
" خلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى " خلعت نعلي " عندما رأيت تلك اللوحة (كربلاء ترحب بكم) أحسست ببرودة الأرض الرطبة وكلما سرت خطوة التصقت بقدمي طينة كربلاء ,رائحة ولون مختلف لتلك التربة لا تشبهها اي تربة ....ومع برودة الطقس يزداد الشعور بالبرد لكن مع كل رعشة تشعر أنّ تلك الطينة تتغلّل إلى داخلك بل تختلط بلحمك ودمك .. أعيش اللحظة بكلّ تفاصيلها ففي ذلك الطريق لا تحتاج إلى عدسة تصوير لتحنّط هذه اللحظات أو لتعيش اللحظة من جديد أو لتتذكّر فكلّ الطريق كلّ التفاصيل محفورة في العقل في الروح ، واقتربت من الهدف من نقطة الوصول هنا تتصاغر النفس من أنا ؟؟ ومن أكون ؟؟ لأكون مع هؤلاء الملايين مواسيًا زينب عليها السلام , تكتمل الصورة ونعيش الذكرى نصادف ركبًا للسبايا " موكب " يتقدّمهم السجاد عليه السلام ومن بعده باقي السبايا، ويعلو صوت مقطوعة نينوى " التي ارتبطت بأحداث كربلاء مذ وعيت تلك الأحداث " فلا يكتمل أيّ تمثيل لأحداث عاشوراء إلا بها.. تندمج ألحانها مع صوت طبول الحرب ,تستوقفنا تلك القافلة نقف إلى جوار المئات بل الالاف السجاد وزينب عليهما السلام الأطفال والنساء وجابر يتقدم الموكب سائرًا إلى أرض كربلاء, ونبدأ المسير معهم , تستقبلنا من بعيد قبّة الكافل لتحتضن قلوبنا قبل أبصارنا نستمر في المسير لنصل إلى العمود 1550نقطة الوصول الهدف ضريح الإمام الحسين عليه السلام لنقف مسلمين من أمام الحرم فدخول الجنة من بعد هذا الطريق يستلزم الإغتسال لتعانق الروح قبل الجسد ضريح النور, أما كيف كان اللقاء فتلك قصة أخرى ؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق