*حكومةُ أب*
مريم فريد.
قلّما تجتمع صفات متضادّة في شخصية واحدة ، القوة والرقة، الجرأة و الحياء، القيادة و الحنان ، لكننا باستقراء بسيط للحياة نجد أنّ شخصية الإمام علي عليه السلام قد جمعت الأضداد وغيّرت الصورة النمطية للقوة والسيطرة .
فما أن يُذكر أمامنا لفظ القائد " الحاكم او الخليفة " الاّ وتتبادر الى الذهن تلك الصورة للقوة والسيطرة ، فصورة الحاكم في مخيّلتنا إنسانُ قويّ البنية متجهّم الوجه بزيّه العسكري ويحمل على الأقل نوعاً واحداً من السلاح ،يتربّع على كرسي الحكم " العرش " يحوطه الوزراء والمستشارين ومجموعة من العسكر والجنود لحمايته ،هذه الصورة وإن شابها بعض التغيير بسبب التطور لكنها تبقى الانطباع الأول للخليفة، وتبقى هذه الصورة المعتادة ننقلها دون وعي فنجعل منها صورة الخليفة الوحيد المعيّن بأمر الله " الإمام علي عليه السلام .
والذي ما أن يُذكر إلاّ وتُذكر بطولاته وصولاته وجولاته في الغزوات والحروب كأنما أصبحت الفضيلة الوحيدة له هي الشجاعة والبطولة وأنّ الإسلام إنّما قام على سيف علي عليه السلام ولسنا هنا في مقام الإنكار لهذا الدور العظيم لكننا ضد تسليط الضوء على صفة وميّزة واحدة من مميزاته التي لاتُعد ولاتُحصى ,ولأنّ هذه الصفة بالذات وإشباعها بالروايات والأحاديث والقصص , أبعدتنا عن شخصية الإمام الحقيقية الإنسانية , فأصبح في نظر البعض مُحارباً من الطراز الأول يحلّ أغلب الصراعات التي تُواجهه بالسيف وسفك الدماء وقطع الرؤوس وتوارت أو بالاحرى اختفت الصورة الحقيقية صورة الخليفة الإلهي، القائد الإنسان، الحاكم الأب،قال رسول الله صلى الله عليه وآله :" ياعلي أنا وأنت أبوا هذه الامة " ـ 1ـ فالأب الأول " متمثلاً بالرسول صلى الله عليه وآله " كان من المُحال أن يترك الأمة دون وصي او خليفة من بعده ،كيف والأمة حديثة عهد بالاسلام ولم يتسنّ له أن يثبّت قواعد الدولة الجديدة بعد والأخطار تحيطها من الداخل " المنافقين " ومن الخارج الفرس والروم فكانت بيعة الغدير للأب الثاني " علي " بيعة من مئات الآلاف في شمس يوم الثامن عشر ،ولكن هي عادة الأمم في نكث البيعة والانقلاب، انقلبت الأمة واساءت الإختيار وأبعدت الحق عن أهله.
أُبعد الامام قسراً عن منصبه السماوي ليبقى في الظل , لكنه مع ذلك لم يتنازل عن منصبه الأبوي فكان إذا احتاجت الأمة لرأيه ومشورته ووقفت السلطة عاجزةً عن حل بعض الامور بل جلّها لم ينتهز الفرصة ليحتلّ منصبه حيلةً او دهاء بل قدّم النصيحة وأصلح وأرشد ووجّه لما فيه الصلاح حتى قال أحدهم كلمة فغدت مثلاً بل اعترافاً صريحاً بعلم علي :"لولا علي لهلك عمر " -٢-وهنا تتجلى أصدق صور الخليفة الالهي في مساعدة من سلبه حقه للبقاء في منصبه.
وحتى عندما كادت الأمور أن ترجع إلى نصابها والحق إلى صاحبه مقابل التنازل والقبول بالسير بسِيرة من قبله رفض الأمر برمّته وعاد الى أرض المدينة يحفر آبارها ويزرع نخيلها الى ان اجتمعت الأمة بعد شتاتها أن ليس للأمر إلاّ علي، فكان أول خليفة منتخب بالأمر السماوي وبإجماع الناس ، جاؤوا إليه هناك بأطراف المدينة حيث يروي الأرض الجدباء بماء الحياة .
ولكن هل استمر قبولهم بالإمام؟
أم نكثوا وقسطوا ومرقوا؟؟
كيف لايفعلون والحاكم الأب يأبى الاّ أن يحكم بالعدالة الالهية فالناس عنده سواسية كأسنان المشط والناس قد اعتادوا الطبقية والتمييز ،نعم حاول البعض حُباً في الامام وأملاً في إبقاء دولته بعيداً عن المواجهات العسكرية مع الطامعين والمخالفين لتلك السياسة الإلهية , لأنهم اعتادوا على خصّهم بالعطايا والهبات من بيت مال المسلمين لكن جواب الإمام عليه السلام كان قاطعاً فقال لكاتبه عبيد الله بن أبي رافع :" ابدأ بالمهاجرين فنادهم وأعط كل رجل ممن حضر ثلاثة دنانير ثم ثنِ بالانصار فافعل معهم مثل ذلك , ومن حضر من الناس كلهم الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلك " -٣-
وعمل على استرجاع المال العام الذي وُهب بدون وجه حق فقال عليه السلام لمن راجعه في ترك هذا الامر :"والله لو وجدته قد تُزوِّج به النساء وملّك به الإماء لرددته فإنّ في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق "ـ٤-هكذا كان نهج الإمام عليه السلام لا يخشى في الحق لومة لائم.
و تأبى معالم الحنان الأبوي إلاّ أن تظهر للعدو قبل الصديق وللمخالف قبل المعارض بل للمحارب فها هو يُرسل صاحبة الجمل مع أربعين امرأة يرتدين زي الجنود والحرس إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وآله معزّزة مكرّمة وهي تدعو عليه وتنادي بأنّه قد فضحها وكشف سترها وهي من قادت حرباً ضد إمام زمانها ,ويُذَكر الزبير قبل أن يرفع السلاح في وجهه بحديث الرسول" صلى الله عليه واله" له وتحذيره من الخروج على إمامه ظالماً له.
وهو الذي مرّ بأصحاب التمر فإذا هو بجارية تبكي،فقال:يا جارية !ما يبكيك؟فقالت:بعثني مولايّ بدرهم فابتعت من هذا تمراً فأتيتهم به فلم يرضوه،فلما أتيته به أبى أن يقبله،قال:يا عبد الله إنها خادمة و ليس لها أمر فاردد إليها درهمها و خذ التمر،فقام إليه الرجل فلكزه ،فقال الناس:هذا أمير المؤمنين فدبا الرجل[8] واصفر،وأخذ التمر وردّ إليها درهمها،ثم قال:يا أمير المؤمنين ارضَ عني،فقال:ماإرضاني عنك إن أصلحت أمرك"، وفي فضائل أحمد:إذا وفيت الناس حقوقهم".
هكذا جسّد الامام في تلك السنوات القليلة بحكومته الحكومة السماوية فلم يبقَ في أرض الإسلام جائع أو محتاج .
ورحل علي..
ورحلت معه العدالة السماوية..
لكن بقيت أبوة علي إلى يومنا هذا..
فما إن تصل أرض النجف حتى تشعر بأنّ كل شئ يحتضنك..حتى نسمات الهواء تُداعبك بحنانٍ أبوي..
وما أن تقف على باب علي هناك حيث مرقده حتى تهوي ساجداً مُقبّلاً أعتابه ..
وهناك مقابل الضريح الطاهر حيث يلتقي أيتام علي.. يتحدّثون بلغة الدموع.. يسمعهم علي ويفهم نجواهم ويصغي إلى حديث قلوبهم حيث لا حواجز لا خوف..
فالسّلام على علي يوم وُلد و يوم يموت ويوم يبعث حياً..
المصادر
1معاني الاخبارص١١٨
2كتاب. ذخائر العقبى/شرح نهج البلاغةلابن ابي الحديد
3/شرح نهج البلاغة/ابن ابي الحديد/ج٧/ص٤٠
4نهج البلاغة /خطبة/٥٧/ص/١٥
5 المجلسي بحار الأنوار: 41/ 48- 49.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق