*حسيسٌ في جنة المأوى*
مزدلفه الخليفه
ليلٌ أجدبٌ يكسوه العراءُ
ينام بين جنبيه فقرٌ أسودٌ "وبنات الدهر" تسكب كؤوساً حاميةَ اللونِ فيزيدُ ليل الكوفة حمأة ٌ ويتمٌ دامس.
فتجهم في وجه الصبح حلكتها؛ كلما أرادت خيوط الشمس أن تعقد ظفائراً من أشعتها الشقراء !!
فكانت نفوسها الدانية تقطع خصلةً من خصلات الفجر الصدّاح ، بفأسٍ من الظلمِ ، وسوطٍ من الهضيمةِ فتسيرُ عمياءَ صمّاءَ ، يحدوها الألم فلا تبصر ولاترى غير لسعةٍ من وجعٍ وغَمشٍ أدهم لا يلوكه مسحة اصبع ولا نفضة رمشٍ ؛ حتى أتى من رفع سمك الحياة بطرفة وألبسها نوراً يشعّ في كبد السماء فأمطرت بالبشرى مذ كان يحيك ثوب الحنانِ ، ويخبز قرص الأمانِ بكف اليقين !
وجلبابهُ ينثر الهيبة في أزقة الكوفة ، فيقطف لليتامى حُبًا ويمسح به على قلوبهم.
ويزرع الأمل في نفوس الفقراء فتنبت في كل نفسٍ مائة صبرٍ ومائة شكرٍ.
فهل أتى على الأرامل ويلٌ من الدهر وعليٌ شيؤها المذكورا؟!
نعم.. تلك حكومةٌ مستفاضةٌ يترامى الكون حولها، فيصطبغ من وئامها لوناً وردياً يترنّم حولها يمنةً ويسرى على صوت العدالة المحضة!!
هو عليٌ.. الشديد العادل ، الحازم القاطع مع أولاده، وأخوته ، وحادثة عقيل خير دليلٍ عليه:
لما طلب مساعدةً أكبر ممّا يستحق من بيت المال ، فدعا الإمام عليه السلام أن يحمي له جمرةً ويكوي بها يده جاعلاً بذلك عبرة ودروس للعدالة والمساوة !
"فيا صفراء ، ويا بيضاء غرّي غيري" (1).
تلك الكلمات التي استقرّت في سماء الهدى ، وينابيع الهوى، وكيس القمح المدلّل الذي بات محمولاً على كتفه حتى تغبّر طمره ، واشتهته حتى رحمته فكان صداه ينفض العوز عن وجوه المحتاجين ، وتحنّنه يرسم النور في أعين المتعفّفين.
فما خلّف في أهله إلا سبعمائة درهم ليفرّق جميع مافي بيت المال ، ويأمر بكنسه فيصلي رجاء أن يشهد له ، وماشبع من مال قط! .
(فأيمّ الله) هكذا كان عليٌّ
"عليه السلام" ؟!
شخصيةً فذة عاشت الوجود الإنساني بكل جوانبه وسعت لتحقيقه ،فترجمت الظواهر الإنسانية في فكره "عليه السلام" وسلوكه لما كان مجاهدًا
في سبيل الله تحت لواء ابن عمّه رسول الله (ص) إذ كان يسمع ويطيع حكومة الرسول الأعظم، ومن ثمّ حين أصبح خليفة وأميرًا للمؤمنين كانت كلّ أفكاره وأفعاله تصبّ في بناء الإنسان.
لذاْ جسّد مقاليد الحكم من واقع عملي وحوّل النظرية فيها إلى تطبيق فعلي.
فهو يفهم الحكم كتكليف شرعي، وليس كمنصب وجاه!!
حيث لجأ الإمام علي (ع) إلى ترسيخ العدالة الإجتماعية عبر أسس وممارسات مختلفة، وعلى رغم قصر مدة حكمه فإنّه اختصر الكثير من الأبعاد الإنسانية والسياسية والإقتصادية وغيرها، ومقولاته تبيّن ممارسته للعدالة الإنسانية،
فعندما دخل إلى الحكومة الإسلامية قال «إنّ علَيَّ هذه الجُبـّة فإذا خرجت من الخلافة بأكثر منها فحاسبوني».!
فدستور علي دستور عبقري يمارس العدالة قبل تقنينها.
وحتى مسألة التوزيع العادل لدى الإمام علي (ع) انطلق من مسألة التخويل الإلهي للإنسان للتصرف في الثروة، فما يملكه الإنسان ليس ملكًا محضًا له ، وإنّما هو ملكٌ لله سبحانه وتعالى، والإنسان ما هو إلا مخوّلٌ في التصرّف بهذا الملك، ولذلك تنطلق المسألة لتحقّق المساواة بين المسلمين وقد كان عليٌّ يقول :«لو كان المال لي لسوّيت بينهم فكيف والمال مال الله».(2)
ومقولته:
{العدل سائسٌ عام والجود عارضٌ خاص}. (3)
" تبيّن أنّ العدالة ، " قانون عام يدير المجتمع وشؤونه،
وأما الجود فهو حال استثنائي خاص لايمكن أن يصبح قانونًا عامًا.
كما قال عليه السلام: بنتيجته المنطقية :"فالعدل أشرفهما وأفضلهما "
ويمكننا القول من هذا المنطلق أنّ هناك حقوقًا تستدعي المساواة بين البشر ، وهناك مرتكزات للتفاضل تؤدي إلى تحقيق العدالة إذا ما أخذت بنظر الإعتبار ، لذا تعدّ (المساواة العادلة ) حق أساسي من حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) .
هو السيد القائد والرئيس المنصف الذي تأتيه الأموال من مشارق الأرض ومغاربها فيشدّ حجر المجاعة على بطنه ويكتب رسالة لعامله يوصيه بالفقراء والمساكين وابن السبيل ويقول له:(إنّا موفّوك حقّك فوفّهم حقوقهم). (4)
فما اقتصرت رسائله ووصاياه على تقسيم الأموال بالعدّ والإنصاف بل اهتمّ بالجانب المعنوي للناس وكيفية معاملة القائد لهم.
كما في رسالته عليه السلام لمحمد ابن أبي بكر يقول:(فخفّض لهم جناحك وألن لهم جنابك وابسط لهم وجهك وآس بينهم في اللحظة والنظرة حتى لايطمع العظماء في حيفك لهم ولاييأس الضعفاء من عدلك عليهم وأنّ الله تعالى يسألكم معاشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم، والكبيرة ، والظاهرة والمستورة، فإن يعذّب فأنتم أظلم، وإن يعفو فهو أكرم).(5)
فما اصطفقت شبابيك الألم مرة في وجه الحيارى إلا وداعبها نسيم ٌ علويٌ دافئ بنور عسلي باذخ فما تذوّقه خائفًا إلا وشبع أمنًا وأمانًا ، ولاتائهًا إلا واهتدى هديًا ورشادًا ، وماجفّت يدٌ إلا واساقطت يده عطفًا جنيًا وجودًا نقيًا تهزّها رائحة القدس المطهرة كعنقود من الأمل المنكّه بعبق السعادة !!
ففرش السكينة وأخرس الصخب الهائج في القلوب المنهكة !!
حتى أقام نظامًا تكافليًا لرعايتهم، وأطعمهم لذيذ أنسه، وألبسهم لباس عنايته ، وأنساهم جشوبة العيش ، ومكاره الدهر.
إذ يقول صلوات الله عليه:
وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ بِالْـيَمَامَةِ مَنْ لاَطَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْص، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ ـ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
وَحَسْبُكَ دَاءً أنْ تَبيتَ بِبِطْنَةٍ
وَحَولَكَ أكْبادُ تَحِنُّ إلى الْقِدِّ›.(6)
وحسبك !! .. تلك التي هدهدت الجراح بكفّ "الملاذ" فما تركتها لتنام ؛ بل اقتلعت عواصف الألم وماحوتها من قيحٍ جاثمٍ .
فبسطت حنانها الناعم لتغفو على صوته الهادئ !!
ورفعت عفوها لتعلن السلام فيهم ونادت:
يامدينة الحزن المتآكل انثري فجرك والبسي شمس الأمان !! .
ففتحت قيود الليل المسجّى في جبّ الظلام وحرّرته بمفاتيح الرحمة ونور الفلاح !
فلا أدري أكان يضخّ الحبّ في أنحائها ، أم كان يرشّ العطف في أحيائها
حتى أتته آمنةً مطمئنةً ما مسّها لغوباً ولاتعباً ؟!.
إنّها القداسة..
التي قد استحمّ الكون بعبقها فخرج بفجر ٍجديدٍ وضوء معتّق ! ..
فكأنّ الكوفة التي كانت حرباً ضروساً أصبحت بسيدها عروساً فازيّنت بالدعاء وأعلنت بهجة اللقاء في يوم النقاء فمذ قبّلت أرضها خطوات الطهر أصبحت هائمة بجنابه!
فتبرّكت بشسع نعله، وتطيّبت بعدله ،
فتراها تنزع الترح وتلبس الفرح في ليلة الوصال!
إنّه العظمة..!!
رسول الإنسانية في أي زمان ومكان .
فعظمته اقتضت الإنسانية
فكما هو إنسان في الجاهلية كذلك هو في الإسلام ، وفي عهد الرسول وبعده، ومع نفسه، وربه، ومن حوله.
فما تنازل عن إنسانيته ولو للحظة.
ومن سموّ ذاته أنّه قدّم خادمه قنبراً على نفسه في لباسه وطعامه، فقد اشترى ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم والآخر بدرهمين، فقال لقنبر: خذ الثوب الذي بثلاثة دراهم، فقال قنبر:
أنت أوْلى به يا أمير المؤمنين، أنت تصعد المنبر وتخطب؟ فقال عليه السلام:
‹يا قنبَرُ، أنْتَ شابُّ، وَلَكَ شَرَهُ الشَّبابِ، وَأنا اسْتَحِي مِنْ رَبِّي أنْ أتَفَضَّلَ عَلَيكَ..>.(7)
نعم هكذا كان العالم العادل ، النبراس الثاقب علي بن أبي طالب عندما يتعامل مع الناس فهو ينطلق من مبادئ الإسلام، وقد قال الرسول (ص): «أقضاكم علي»(8)،
إنّ أية جريمة كانت تحدث في المجتمع كان الإمام يملك لها الحكم الواقعي وليس الظني، إذْ يحكم بحكم الله الواقعي وذلك لمعصوميته ،
وبالتالي فإنّ المجرم عندما يعاقبه الإمام فإنّما يعاقبه بحق والأسير إنما أسر بحق، ولعل أكبر تسامح نجده في حياة علي (ع) من ناحية الأسرى حينما جيء له بقاتله عبدالرحمن بن ملجم فإنّ عليّا أوصى أبناءه بأن يحسنوا لهذا الأسير، وذات مرة حينما شرب اللبن أوصى بأن يعطوه لابن ملجم.
أترى ذاك الذي نفث الخلسة عن عيون المدينة بأفياء مسجده فاجتُثت وحشتها بضياء وردِه تغيب معالمه وآثاره؟!
لا.. بل يطوي الزمان ساعاته لحظة بلحظة، والأحقاب تلتهم بعضها بعضا ، ولكن شمس علي التي ردّت جليلة لاتؤول بالفناء !
___________
(1) الفضائل ج1، الحديث 7، ورواه أبو نعيم في حلية الأولياء ج2 ص81.
(2) نهج البلاغة من كلام الإمام علي ع لمّا عُوتب على التسوية والعطاء - 126
(3) باب المختار من حكم الإمام 437
(4) نهج البلاغة ج3
(5) نهج البلاغة الرسائل 27
(6) نهج البلاغة من كتاب له إلى عثمان بن حنيف الأنصاري 45.
(7) الثقفي: كتاب الغارات ج1، ص106
(8) الإحتاج الشيخ الطبرسي -ج2
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق