بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 5 مايو 2018

الحراك الثقافي للمرأة

الحراك الثقافي للمرأة
الواقع والتحديات
ام محمد زاده
لا يمكن الحديث عن دور المرأة الثقافي بمعزلٍ عن دروها الإنساني في حركة الحياة ، ومكانتها المركزية وموقعها الجوهري الذي تشغله في الساحة الإسلامية ، والفكر الإسلامي ، والشريعة الإسلامية ، للوقوف على الصورة المضيئة لشخصيتها ، وتشخيص دورها الفاعل والمؤثّر في ساحة الواقع ، وحركة التاريخ والزمن .

ومع هذه المساحة الضخمة التي تشغلها المرأة  في التشريعات الاسلامية ، والمجتمع الإسلامي ، بدأت  في الآونة الأخيرة تنسحب وتتراجع من ساحة العمل الثقافي والإجتماعي مع الأسف الشديد بذريعة الأولويات ، وقانون الأهم فالمهم ، في حلقةٍ لا تنتهي من الذرائع والأعذار والتبريرات ، وهذه  بأجمعها ساهمت بشكلٍ كبير في انسحاب أعدادٍ غير قليلة من المثقفين والمثقفات ، والعاملين والعاملات ، من ساحة النشاط والحراك الثقافي .

الكثير من الناس يضعون المرأة بين خيارين ، ويخنقونها بين زاويتين ، وهذه النظرة تنطلق من ركام القناعات الخاطئة ، فيقنّنون دورها، إما أن تقوم بدورها الطبيعي كأم والأوضاع الخاصة التي تفرضها الأمومة،  من الحمل والرضاعة والتربية ، وهذا هو دورها المركزي  والأساسي الذي خُلقت من أجله  ، ولا مجال لأي دورٍ آخر، وبين انخراطها في ممارسة الدور الثقافي أو الإجتماعي، فلا مناص من الإختيار بين هذين الدورين .

إنّ هذه النظرة وهذا التوجيه وهذا الخطاب ، أبعد المرأة عن ممارسة دورها الإنساني والإجتماعي ، وهذا بلا شك ترك أثاره السلبية على وعي المجتمع وثقافته وتطوره  ، فهذا التوجيه وهذه النظرة التي تدعو إلى تجهيل المرأة ، وإبقاءها في المربع الأول ، وفي هذه الزاوية الضيّقة ، سبّبت في زيادة حالات الإنسحاب والتملّص والتراجع عن خط الدعوة والتوجيه ، كما ساعد على عزلها عن ممارسة دورها في الحقل الثقافي ، وحجبها عن المشاركة في عملية البناء والتطور .

مسؤوليتنا بناء المرأة في شقّي الحياة ، الشخصي والإجتماعي ، حيث تتكامل صورة المرأة الواعية في تكامل أدوارها الحياتية ، فلا تعيش الذاتية المنغلقة ، أو الاجتماعية المنفلتة  ، بل تعيش كلا الدورين معاً ، فعلى المرأة المثقفة تأدية دورها في بيتها كزوجة وأم ومربية ؛ لتتكامل أدوارها الأسرية والتربوية ، وعليها في الجانب الآخر، تأدية دورها الثقافي والإجتماعي ، كجزءٍ من دورها الإنساني ، لتترك بصماتها الواضحة في حركتها الثقافية والإصلاحية ، كجزءٍ من مسؤولياتها الإسلامية الدعوية ، فلا يمكن للدور الإنساني والثقافي الذي تمارسه يلغي دورها في نطاق الأمومة ورعاية الأسرة ، فعليها إذن أن تتجاوز هذين الخيارين وغيرهما من الخيارات،  التي تفصلها عن ممارسة دورها بأمانة ، وتحد من انطلاقها ونشاطها وعطاءها . فالمسؤولية مشتركة بينها وبين الرجل ، في مواجهة الانحراف وحالات الفساد ، ولا بدّ  من العمل وبذل الجهد الفكري والحركي لبلوغ الأهداف الإسلامية العليا، فلعلّ كلّا من الرجل والمرأة  يمنح الحياة حركةً  وفكراً وحضارة .

الآية الكريمة تُحمّل المؤمنين والمؤمنات مسؤولية العمل الإجتماعي ، وتأدية الدور التوعوي الإصلاحي في الواقع العملي .
قال تعالى:
( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم  أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله ، إن الله عزيز حكيم ) -١
الآية ترسم الصورة المضيئة لتكامل الأدوار  الحقيقية المطلوبة لكل من الرجل والمرأة ، فحينما تتناغم وتتلاقى أهدافهما في أفاق الدعوة ، وخطّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حينها يتمّ تأصيل القيم النبيلة ، وترسيخ المفاهيم الإسلامية ، فالدعوة إذن مفتوحة للجميع، للنساء والرجال  لممارسة الحراك الثقافي ، وتجاوز حالات الجهل والتخلّف والأمية .

إذن المجتمع بحاجة إلى كلٍ من الرجل والمرأة ، انطلاقاً من حاجته إلى كل الطاقات والإمكانات . فإذا كان كلٌ منهما قادراً على إيصال صوت الحقيقة ، وصوت المعرفة ، يجب عليهما أن يقوما بذلك بلا تردد ، وأن يُبلّغا رسالتهما ، ويسخّرا كل الإمكانات ؛ ليبقى المجتمع متلوّناً بلون الإيمان ، ويتنفّس  أفراده روحية الإسلام وقيمه ، ويشمّون جمال عطره وطهارته .

هنا نشير إلى مسألةٍ في غاية الأهمية ، ليست مهمة المرأة التي تعمل خارج دائرة الأسرة أن تبتعد عن خط الله وخط الإلتزام ، ليتحوّل العمل والجهد الذي تبذله إلى وضع شاذ يتّسم بالتفسّخ الأخلاقي والإنفتاح غير المتزن ، والميوعة وحالات التبرج السافرة ، بل عليها أن تعمل خارج حدود بيتها برسم الصورة المشرقة للمرأة المثقفة في حكمتها وذكائها ، وفي قراءتها للواقع ونظرتها الناضجة والمتعقلة للأمور ، وكذا قدرتها على إدارة الأزمات ومواجهة التحديات بالإلتفات إلى عدة أمور:

١- الإلتزام الداخلي بخط العقيدة والإيمان :

على المرأة المثقفة الإلتزام بخط الإيمان والتقوى ؛ لتستطيع مواجهة التحديات  في ساحة الصراع الفكري والثقافي ، فالإيمان هو الذي يفتح باب الأمل في كل خطوة ، وكل تجربة ، فمهما غُلقت الأبواب ، تجدّدت العزيمة ، وولّد الإصرار ، وارتفعت المعنويات لمواجهة الواقع وخوض التجارب .

إنّ الإلتزام بخط الإيمان يُمكّن المرأة من تجاوز الضغوطات في أعلى مستوياتها ، والقرآن الكريم أشار إلى هذه الحقيقة في حديثه عن سيدتين عظيمتين ، امرأة فرعون ، ومريم ابنت عمران
قال تعالى :
( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ، ومريم بنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) -٢

إنّ نور الإيمان الذي أشرق في أعماق آسيا بنت مزاحم  جعلها فوق الظروف ، وفوق الضغوط ، وفوق الأزمات ، فهذا هرمون الإيمان بالله ، وهذه هي أثاره السحرية العجيبة ، لقد انقلبت هذه المرأة المؤمنة على كل شيء من حولها  ، انقلبت على الواقع المترف ، وعلى الحياة الرغيدة ، وعلى الجاه والنعيم والدلال ، لقد انقلبت على نفسها وعلى شهواتها وقصرها وكبريائها . وتحدّت كل الضغوط ، وكل المؤثرات ، وكل الأجواء ، ولقد وقفت في وجه العاصفة بمفردها ، وغرّدت خارج السرب وحيدة ، وخالفت رغباتها وشهواتها ونفسها . فالآية لم تذكرها باسمها بل بصفتها ( امرأة فرعون ) وهو ضغط كبير جداً جداً.
لقد انتقلت من محطة الكفر إلى محطة الإيمان ، وتسلّقت مراتبه ، ووصلت إلى قمّته وأعلى مستوياته ، وأصبحت أنشودةً يتغنّى بها المؤمنون الموحدون على مر الأزمان ، لتكون مثلاً ورايةً وآيةً وحجةً لكل المؤمنين إلى يوم القيامة .
ومريم بنت عمران التي عاشت الطّهر والعفاف ، ليست استثناء محض ، بل كانت الأجواء النقية التي عاشتها ، والبيئة الطاهرة الخاصة في المسجد لها الأثر الكبير في تشكيل شخصيتها وتلوّنها بلون خاص من الطهارة والروحانية ، وكذلك دور التربية السليمة التي حظيت بها عندما :
( وكفّلها زكريا ) -٣

فالله تعالى تحدّث عن اصطفائها على النساء من خلال إيمانها،  ومن خلال استقامتها وملامح شخصيتها وعفتها وعبادتها .

فالإيمان نقطة البداية ، وشرارة الإنطلاق ، فمع الإيمان بالله تعالى تتحرّك القوى والطاقات في تطلّعاتها ، وفي أفكارها ومشاريعها . فالإيمان يرافقه الوعي بالذات والواقع ، فالمرأة المؤمنة المثقفة تنطلق بعاطفتها العفوية الرسالية  لتعمل وتتحرك بشعورها العميق بالمسؤولية  ، فهي تدرك تماماً ، أن الثقافة للتحرّك لا للإسترخاء .

٢- الوعي المنفتح على القضايا الكبرى :

في المشروع الثقافي هناك نموذجين :
-نموذج الشخصية المسؤولة الفاعلة والمؤثرة .
-نموذج الشخصية المنهزمة والمتخاذلة .
فالمرأة المثقفة لا تتحرك بروحٍ انهزامية  ، ولا تمارس مسؤولياتها في كسلٍ سلبي ، بل تعمل وتتحرّك بخطوطٍ عريضة ، وتحت شعار الدعوة إلى الخير  ورسالة الإصلاح والبناء ، بحسٍ إيجابي فعّال
فهي تعرف إين تقف ، وأين تضع أقدامها ، وماذا تريد ، وماذا ستفعل . بمعنى أنّها تعي حقيقة المرحلة التي تعيشها ، وتستخدم كلّ كوامن القوة والعزيمة والإبداع ، في ممارسة دورها الثقافي . لأنها تملك الوعي العميق المنفتح على قضايا الإسلام الكبرى ، ولا تستنفذ وقتها وحياتها للقضايا الثانوية ، المرتبطة بلغة الجسد والجنس والمظاهر . فمشروعها كبيرٌ لا حدود له.

الصدّيقة الكبرى السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام عاشت الأجواء الرسالية،  وهي لا تزال حديثة السن ، فكان والدها رسول الله صلى الله عليه واله يحتضنها برعايته ، في أجواء الطهر والتقى ، وفي بيته المتواضع تربّت على حب الإسلام وانفتح عقلها على القضايا الكبرى للمشروع الرسالي ، وارتشفت من معينه ؛ لينفتح قلبها وعقلها وكيانها ووجودها على حبّ الدين ، وحبّ الاسلام ، لقد كانت تعيش بقلبها الصغير مع ابيها رسول الله صلى الله عليه واله في خط المواجهة ، وفي الصف الأمامي من المعركة والتحدّي ، فكانت معه لحظةً بلحظة ،  كانت معه مع تضحياته وعطاآته ، مع حبه ونبضات قلبه ، مع آلامه وآماله ، مع كل منابع الحب والعطف والرحمة التي تتسع لكل الكون ، ومن فيه .

فالوعي المنفتح على القضايا المصيرية الكبرى للإسلام هو مشروع المثقفين والمثقفات اليوم . عليهم ألأّ يضلّوا الطريق ، ولا يضيّعوا ملامحه وآثاره  ، كما عليهم عدم الإستسلام للراحة والكسل والوهن الفكري والثقافي لأن ذلك أكبر عثرةٍ في طريق الإبداع والتطور الحضاري .

٣- المنهج التربوي المتوازن :

يمكن للمرأة المثقفة بناء شخصيتها الحضارية بتقوية عنصر الإرادة الضابطة  ، والحس الواعي ، والعقل المنفتح ، وذلك بالتمرّد على عناصر الأنوثة ، فحالة الضعف والرّجعية ليست حالة ملازمة وملتصقة بالمرأة ، بل هي حالة عرضية تتجاوزها المرأة ، إن أرادت ذلك .
إنّ المنهج التربوي التقليدي أنتج المزيد من ضعف المرأة ، وحالة التجهيل التي تعيشها من إهمال وتهميش واحتقار لدورها ومكانتها .

فالتوازن بين القيمة الذاتية ، والقيمة الأخلاقية ، والتوازن بين حاجات الروح وحاجات الجسد هو المطلب الذي ننشده لحياةٍ وسطية تتنفّس في محيطها المرأة المثقفة لتمارس أدوارها الطبيعية .
إنّ التركيز على الحاجات والقضايا ، يجعل المرأة تجد حاجاتها التي تتكامل مع حاجات الأخرين ، وفق النظام الإسلامي الإجتماعي ، والذي ينظّم ويوازن حاجات كل فردٍ ضمن حدود وحاجات المجتمع ،
وفي ساحة العمل يثار موضوعي الإثارة والإغراء وهما موضوعان في غاية الحساسية والأهمية بمكان ، على المرأة المثقفة أن لا تتحرك بجسدها لإثارة الغرائز ، بل تتحرّك بعقلها وحكمتها لإثارة الإحترام والتقدير ، فالرجل لا يرى جسد المرأة ، بل يرى إنسانيتها في رصانتها واستقامتها ورجاحة عقلها ، وهذا ما يجب أن تنظره المرأة لنفسها ، فهي قادرة على أن تكون إنسانةٍ بكل معنى الكلمة  ، وأن يلامس عنصر الإنسانية روحها وعقلها ووجدانها ، لتكون مسؤولةً عن الواقع الذي تعيشه ، والأرض التي تقف عليها .

المصادر :
١- التوبة / ٧١
٢- التحريم / ١١/١٢
٣- آل عمران / ٣٧

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق