أعينوني
فاطمه العيسى
كما أنّنا بنعمة البصر نملك القدرة على رؤية الأشياء كما هيّ بوضوح ،وتشخيصهابمسمّياتها ،
ونملك القدرة على تمييز مواقع الأمان من الأذى أوالخطر ، فإمّا عوائق قد نصطدم بها،أو هي أشواك متناثرة في الطريق، بهذه النعمة بذاتها نستطيع حماية الذات ودفع الكثير من الأخطار عنها..
كذلك هي نعمة البصيرة ، فتلك هي لعالم المادة وهذه لعالم المعنى ، بها ندرك حقائق المعاني وبواطنها ،فلم يحظ بهذه النعمة إلا ثلّة من المؤمنين بينما غفل عنها الكثيرون فهم يرون أن لا حاجة للإجتهاد في سبيل الحصول عليها بظنٍ أنهم في منطقة الأمان من هجوم الشكوك والتعثّر بمطبّات الشبهات التي قد ترتطم بهم بقوة في طريق الإيمان .
وللإحتماء من السقوط هو الورود إلى الحصن الإلهي بعد أن يضع قدمه باستقامة على الطريق الصحيح من غير التفات لوساوس العدو ليشعّ له نور البصيرة .
ومنهاجُها ترتّله كلمات ذاك الأب الحاني التي مازال يتردّد صداها في الآفاق وهي تمثّل مصباحاً لكل عاقل ..
(أعِينوني بورع واجتهاد)"1"
فماهو المقصود من الورع والإجتهاد؟!
الورع هو كفّ النفس عن المعاصي ومنعها عمّا لا ينبغي ، وتنزيهها وتعفّفها
عن الشبهات، وهو شعار الأنبياء والأتقياء ، فهو ملكة تنبعث من القلب تعبّر عن الخشية والخوف من الله تعالى ، إذ هو ثمرة العفاف.
أمّا الإجتهاد هو تحمّل المشقّة في العبادة والمراد منه المبالغة في الطاعة ،ولاخير فيه بغير ورع فمهما عمل من الطاعات والعبادات وهو فاقد لأساس التقوى فلن يؤتي ثماره ولن ينفعه .
كثيراً ما أكّد المعصومون "عليهم السلام" في أحاديثهم الشريفة على أهمية الورع والتقوى بأنها صفة أتباعهم وشيعتهم
ومن لا يتورّع ويتّخذ التقوى جلباباً لايعدّونه مؤمناً ، فلا ينال ماعند الله إلا به.
فهل حققنا لعليّ "عليه السلام "هذا العون في كل جزئيات حياتنا؟!
أو ارتفعنا إلى مستوى القيمة التي أرادها منّا الإمام في قوله :
(قيمة كل امرء وقدره معرفته)!!"2"
فكيف لنا أن نكون عوناً له "عليه السلام"؟!
قد يتبادر إلى ذهن الأغلب أن؟ الكثير منّا يجهد نفسه في مجال العبادة كمثل الصلاة والصوم والحج والكثير من الأعمال ، أليس هذا مصداق لعون الإمام !!
نحن قد نجهد أنفسنا كثيراً بالعبادات الظاهرية ،بينما نغفل عن الأمر الأولى والأهم وهو:
أن نعمل على إنارة مصباح هذا القلب بنور المعرفة لنكون ممّن ساهم في إعانة الإمام بالفكر المعنوي الذي به تقاس قيمة الإنسان ، وبِهِ يتجاوز حدود الحيوانية وسفاسف الأمور ليرقى إلى الدرجات الإنسانية العالية.
ففي كلام له "عليه السلام" يعبّر عن مدى الحزن والأسى الذي يختلج صدره الشريف لعدم إدراك الكثير من الناس بأهميّة المعرفة ودورها في صنع الإنسان.
المؤمن واتزان شخصيته.. في قوله:
(مالي أرى الناس إذا قرُب اليهم
الطعام ليلاً تكلّفوا إنارة المصابيح ليُبصروا مايدخلون بطونهم ، ولا يهتمّون بغذاء النفس بأن ينيروا
مصابيح ألبابهم بالعلم ليَسْلموا من لواحق الجهالة والذنوب في اعتقاداتهم وأعمالهم)."3"
وهانحن اليوم نصرف الأموال الطائلة لأجل إرضاء شهوة عابرة ،فليس ذلك وحسب ، بل تحوّلت الأطعمة والملذّات بأنواعها لكعبة تطوف حولها أجهزة الموبايل ، ففضلاً عن قبائح الذنوب ، لتنمّ عن رذيلة مختبئة بين طيات النفس وهي حبّ التكاثر وروح التفاخر التي شغلت القلوب عن المعرفة وأبعدتها عن غايتها الشريفة.
أكثرنا قد يقنع باالمستوى الضئيل من المحبّة التي يحملها للإمام إلى قدر كبير من الإطمئنان ، فما لم تصل إلى حدّ الورع والمعرفة لم يتحقق العون وبالتالي لا تتحقّق المحبّة الحقيقية
للإمام ، وقد ينسلب منّا الإيمان بأصغر امتحان ..فكما انحرف الكثير ممّن كانوا مع الإمام في عهده فقد ننحرف ننحن أيضا ما لم تنفذ إلى قلوبنا نور المعرفة ، فقد انقلبوا ضد الإمام بمخالفته وليس ذلك فحسب ، بل حتى مقاتلته كالزبير بن العوّام الذي كان من المدافِعين له إلى أن شبّ ابنه عبد الله فأصبح من المقاتلين
له في معركة الجمل ، وكذلك الخوارج الذين اتهموه بالكفر ،وكل ممن تباطأ عن نصرته "عليه السلام" مما لحق ونال بالإمام منهم همّا عظيماً، لقلة المعرفة والورع في قلوبهم ..
ولنتمكن من الإقتراب أكثر من معنى المعرفة فلنوضح معناها كما وردت في معاجم اللّغة:
المعرفة:
هي إدراك الشيئ بحقيقته ، وأدرك الشيئ أي بلغه وناله ..
والإدراك هو الفهم ، والفهم هو حسن تصور المعنى ،وجودة استعداد الذهن للإستنباط .
وبالتالي نستنتج أنّ المعرفة هي القدرة التي ينال بها بلوغ حقائق الأشياء وفهمها.
فمن أين تنشأ هذه المعرفة ؟!
أصلها ينشأ من العلم وهو دليل المؤمن إليها، أي يجب أن تكون
هي الغاية من العلم، ولكي تتحقّق هذه الغاية نحتاج الرجوع إلى العقل وهو القوة المعنوية التي أودعها الله في هذا الإنسان ليصرفها في محلّها الأنسب ، فمع قدرتنا على التمييز بين الحسن والقبيح ، والخير والشر، والحق والباطل إلا أنّ هذا لا يكفي للإنتفاع من هذه الجوهرة الربّانية،فهي بحاجة إلى صون ورعاية دائمة ليزداد توهّج نورها وتتحقّق المعرفة بها ،لكي
لا يضيّع هدفيّة العلم في حياته
وكما أنّ للعلم دليل كذلك للمعرفة دليل !!
فالعالم لا يكون عالِماً حقيقيّاً إلا
بالمعرفة وهي بدورها ترشد للعمل.
فلذا شدّدت مدرسة أهل البيت "عليهم السلام" على هذا الجانب من الهدفيّة العليا للعلم وهو أن يكون مقرونًا بالعمل لأنه هو البرهان عليها ..
كما قال الإمام الصادق "عليه السلام":(لا يقبل الله عملاً إلا بمعرفةولا معرفة إلا بعمل ، فمن عرف دلّته المعرفة على العمل ومن لم يعمل فلا معرفة له)"4"
ويقول الإمام علي "ع" في وصيّته لكميل :
(مامن حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى المعرفة)"5"
فإذن لها مكانة ومنزلة عظمى عند أهل البيت عليهم السلام..
والطريق لكسبها :
أوّلاً:
هو صون العقل والمحافظة عليه
من الرذائل الأخلاقية التي تطفئ
نوره ، لأنه منشأ العلم إلى مصباح
المعرفة التي يعبّر عنها بالإيمان
القلبي وهو الوصول لمرحلة اليقين
ومن هذه الرذائل :
1-اتباع أهواء النفس وشهواتها:
هو أن يكون أسيراً لها ،فتكون
تصرفاته خلاف التعقل والإدراك
(لا تجتمع الشهوة والحكمة)"6"
2-الغضب :
(الغضب يفسد الألباب ويمنع من
الصواب )"7"
3-الأماني والمطامع:
وهي غالباً خواطر نفسيّة تنشأ من تعلق الإنسان بالدنيا.
(الأماني تعمي عيون البصائر)"8"
4-العجب والتكبر :
(العجب يفسد العقل)"9"
(شر آفات العقل الكبر)"10"
5-سوء تهذيب النفس:
(من لم يهذّب نفسه لم ينتفع بالعقل) "11"
6-التسرع والعجلة في التفكير
فالوصول الى الحقائق يحتاج
إلى تفكير وروية ودراية
مما أوصى به الإمام الباقر لإبنه الإمام لصادق عليهما السلام :(يابني اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم فإنّ المعرفة هي الدراية للرواية)"12"
7-اللجاج والجدل ..
(اللجاج يفسد الرأي )"13"
(الجدل يفسد اليقين)"14"
8-اللهو :
(اللهو قوت الحماقة )"15"
وهو كلّ مايشغل الإنسان عن الله تعالى .
9-الإكراه :فعقل الإنسان له طاقة محدودة إذ أنّه معرّض للتعب ، فهو يحتاج إلى ظروف ملائمة ليتسنّى له التفكير ، فإذا أكره على ذلك سيؤدي
وصوله إلى التوقّف والجمود .
(إنّ للقلوب شهوةً وإقبالاً وإدباراً فأْتوها من قِبل شهوتها وإقبالها فإن القلب إذا أكْره عُمي)."16"
10-كلّ رذيلة أخلاقية (كالنفاق ، والحسد،والحقد ، والكذب والكثير منهاالتي وردت في كتب الأخلاق .
فما لم يتخلّص الإنسان من دخان هذه الموانع والحجب العقلية فلا يتيّسر له رفع الغشاء عن البصيرة وبالتالي لن يعثر على طريق السعادة أبداً ..
الطريق الثاني:
(نبّه بالتفكّر قلبك)"17"
هناك علاقة وثيقة بين العقل القوةالمدركة والقلب مركز العواطف والأحاسيس ، فإذا ما انتهج العبد عبادة التفكّر وإعمال العقل في أمر خالقه ودنياه وآخرته ، وفي عظيم خلقه وآياته ويلتفت إلى كينونة كل موجود باعتباره آية لقدرته ، ويتفكّر
في حقيقة نفسه وهي الفقر والضعف والحاجة الدائمة إلى ربّه فلا شك أنّه يرجع مذعنًا معترفاً مؤمناً موقناً خاشعاً بأنّه إنسان متناهي الصغر في قبال خالقه العظيم ، فبذلك يتشعشع الإيمان الحقيقي في كل زاوية من زوايا قلبه..
وبالتالي يكون قد سعى إلى تلبية طلب مولاه الإمام علي "عليه السلام" وكان عوناً حقيقيّا له بالورع والإجتهاد
في دينه ليدخل إلى حرم الولاية
(لاتنال ولايتنا إلا بالعمل والورع)
"الإمام الصادق"عليه السلام"
...............................
1/نهج البلاغة 'كتاب له عليه السلام رقم 45،شرح محمد عبدة
2؛12/بحار الأنوار ،العلامة المجلسي ج2 ،ص184
3/مستدرك سفينة البحار ج6،ص537
4/أصول الكافي ج1كتاب فضل العلم.
5/شبكة الإمام الرضا ، من كلام الإمام لكميل
6/كتاب العلم والحكمة لمحمد الريشهري ص159
7؛8؛9؛؛14/موسوعة الإمام علي للسيد هادي المدرسي .
10؛15/شبكة الإمام الرضا.
11/ميزان الحكمة ح4858
16/نهج البلاغة ، شرح محمد عبدة، ح رقم 193
17/الكافي ج 2 ص45
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق