الإمام علي دستور حياة
ندى الخلف
(ستعيش حياتك مرة واحدة ) عبارة اختلف مفهومها بين الأشخاص ، فالبعض يراها من زاوية أن لاتهدر طاقاتك وأوقاتك في متع الدنيا الفانية بل عليك أن تكرّس جلّ وقتك للعمل للآخرة ، والبعض الآخر رآها من زاويةٍ مختلفةٍ تمامًا فقد رآها بأنك ستعيش فترة قصيرة من حياتك فحريٌ بك أن تستمتع بكلّ لحظة من لحظات حياتك باحثًا هنا وهناك عن متع الحياة ورفاهية العيش.. ومابين النظرتين كما بين السماء والأرض فأيّهما النظرة الصحيحة ؟
وضع لنا الشرع دستورًا ومنهجًا حياتيًا متكاملًا إن نحن التزمنا به فزنا بسعادة الدارين فقد قال تعالى:( وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا) 1
جاء في تفسير الأمثل أن معنى أمة وسطًا هي الأمة المعتدلة في العقيدة التي لاتسلك طريق الغلو ولا التقصير ، معتدلة في جميع أبعاد حياتها فالله يريد من الإنسان أن يكون معتدلًا وسطيًا في شخصيته فلا إفراط ولاتفريط ، وقد تعدّدت الآيات التي تحثّ على الوسطية و الإعتدال ، على سبيل المثال لاالحصر قال تعالى :( واللذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا) 2
وقال تعالى( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولاتنس نصيبك من الدنيا )3
فالإتزان مطلب في حياة الإنسان إذ أنّ الإفراط والتفريط كلاهما يرديان الإنسان ويسبّبان هلاكه والتاريخ يشهد على ذلك فالخوارج بالغوا وتعمّقوا حتى خرجوا عن الدين ، كانوا يقرؤون القرآن، ولكنه لا يجاوز تراقيهم، مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال:
( إنّ أقواماً يتعمّقون في الدين يمرقون كما يمرق السهم من الرمية.) 4
روي أنه جاء ثلاثة رهطٍ بيوت الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فسألوا عن عبادته ، فلما أخبروا كأنهم تطاولوها : فقالوا : « وأين نحن من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ». أما أحدهم فقال : « إني أقوم الليل كله » وأما الثاني فقال : « أصوم الدهر ولا أفطر » وأما الثالث فقال : « لا أتزوج النساء » فلما حضر الرسول ( صلوات الله عليه وآله ) وأُخبر بما قالوا ، جمع المسلمين في المسجد وخطب فيهم فقال :
(( ما بال أقوام قالوا كذا وكذا والله إني لأقربهم الى الله وأخشاهم له ولكني أصوم وأصلي وأرقد وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني )) 5
اذاً الوسطية هي الطريقة المثلى ولنا في أهل البيت أسوة حسنة فهم الأمة الوسطى وقد ورد عنهم قولهم (نحن الأمة الوسطى ) هكذا هم أهل البيت منهجهم الإتزان وكالرسول (ص )كان علي
( ع) أنموذج الشخصية المتزنة وقد خطّ عليه السلام دستور حياةٍ متكاملٍ من خلال كلماته ومن سيرته العطرة لمن أراد أن يعيش الحياة كأفضل مايمكن أن تُعاش، قال عليه السلام (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا)
كانت نظرته للحياة نظرة واقعية لم تكن مثالية وكمثال على ذلك نرى أنّه في عهده لمالك الأشتر بيّن له كيف يتعامل مع الناس بواقعية بعيدًا عن المثاليات فقد نبّهه إلى أنهم بشر كما يصيبون يخطئون حيث قال في ضمن ماقال ( إنهم صنفان إما أخ لك في الدين أونظير لك في الخلق ، يفرط منهم الزلل ، وتعرّض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العهد والخطأ)
وكذلك في بعض كلماته القصار يقول عليه السلام: ( أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما).
كان أعجوبة في شخصيته الكاملة ، صفات متضادّة تمازجت في روحه العظيمة فأسفرت عن جمالٍ يأخذ العقول ، جمع في ذاته الأضداد ، جمع الحزم واللين والقوة والمظلومية والرجاء والخوف ، فهو البكّاء في المحراب ليلًا وهو الضّحاك إذا اشتدّ الضراب.
والمتأمّل في أدعية الإمام علي (ع) يدرك من خلالها كيف جمع الإمام علي (ع) بين الخوف والرجاء ففي إحدى خلواته تسمعه يناجي ربه ويقول (آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها فتقول خذوه فيا له من مأخوذٍ لاتنجيه عشيرته ولاتنفعه قبيلته ولايرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء ، آه من نار تنضج الأكباد والكلى ،آه من نار نزاعةً للشوى آه من لهبات لظى)
وقد وصفه ضرار لماسأله معاوية أن يصفه وقال في ضمن ماقال :
( أنه إذا أرخى الليل سدوله وغارت نجومه وقد مثل في محرابه قابضًا على لحيته يتململ تململ السليم بمعنى يهتز كالمريض الذي يتلوّى ألمًا ويبكي بكاء الحزين يناجي ربه يقول ياربنا ياربنا ثم يخاطب الدنيا يقول إلي تغرّرتِ إلي تشوّقتِ هيهات هيهات غرّي غيري فقد طلقتكِ ثلاثًا لارجعة لي فيها أبدًا فعيشك حقير وعمرك قصير وخطرك يسير آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق) هذا يبيّن جانب الخوف عنده أما جانب الرجاء فقد ورد في المناجاة الشعبانية المروية عنه أنه قال فيها ( إلهي لم أُسلّط على حُسن ظني قنوط الإياس ، ولا انقطع رجائي من جميل كرمك. إلهي إن كانت الخطايا قد أسقطتني لديك ، فاصفح عني بحُسن توكلي )
وكان (ع) يحمل في جوانبه قلبًا يفيض رقةً وحنانًا على الرعية وفي ذات الوقت قلبًا جسورًا في المعارك على أعداء الدين فهو القائل( إن نمت الليل ضيّعت نفسي وإن نمت النهار ضيّعت رعيتي )كان يستريح فترة الظهيرة تحت ظل شجرة وسط المدينة في شدة الحر حتى يكون في متناول أي مظلوم يريد مقابلة الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية مباشرة فلا حرّاس ولا مواعيد مسبقة.
وهو القائل ( ما إن تأوّهت من شيء رزئت به كما تأوّهت للأيتام في الصغر
قد مات والدهم من كان يكفلهم
في النائبات والاسفـار والحـضـر
كان أبا للأيتام أنساهم لوعة الفقد ومراراته بل إن أطفال المسلمين تمنّوا أن لو كانوا يتامى ليحظوا بعناية خاصة من أمير المؤمنين كان يركبهم ظهره ويلاطفهم ويلاعبهم حتى لاتكاد تصدّق أنّ هذا هو ذاته الرجل الصنديد في ساحات الحروب هو ذاته قاتل عمرو بن ود وقالع باب خيبر وقاتل مرحب و هو القائل (والله لو تظاهرت العرب على قتالي ماولّيت منهم فرارًا ) ولا تكاد تصدق أنّ هذا الذي يتلوى كالمريض في خلواته هو ذاته من يتقهقر الجيش بمجرد أن ينزع اللثام عن وجهه ، في رواية سودة الهمذانية أنها جاءت لعلي تشتكي من رجل ولاه صدقاتهم فقال لها بتعطّف ألك حاجة ؟ فأخبرته خبر الرجل فبكى ثم قال (اللهم إنّي لم آمرهم بظلم خلقك ولاترك حقك ) ثم أخرج من جيبه قطعة من ورق فكتب فيها (فأوفوا الكيل والميزان ولاتبخسوا الناس أشياءهم ولاتعثوا في الأرض مفسدين إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك حتى يأتي من يقبضه منك )6
هذه الرواية تكشف اجتماع الأضداد في شخصه المقدس وتظهر جمال الإتزان فيه (ع) كيف أنه بلغ حدًا من العطف بهذه المرأة الشاكية إلى أن بكى ثم تحوّلت لهجته إلى الصرامة و الشدة مع جامع الصدقات الذي جار عليها.
ماأحوجنا اليوم لدستور علي (ع) ولتطبيق مبادئ الوسطية التي دعا لها ديننا الإسلامي لذا يتوجب علينا
إعادة النظر في بعض أفكارنا ورؤانا ، واللازم على كلٍّ منا الإنفتاح على عقول وتجارب الآخرين كيما تتلاقح الأفكار وتتعدد زوايا الرؤية فتكون رؤيتنا رؤية شاملة لامنغلقة على ذاتها ولا متماهية مع الأفكار الدخيلة فنعيش بذلك جمال الحياتين ونفوز بسعادة الدارين.
_________________________________________
المصادر:
1/ اية143سورة البقرة
2/سورة الفرقان اية 67
3/سورة القصص اية 77
4/موسوعة الإمام علي
5/قبسات من حياة الرسول
6/ الإمام علي صوت العدالة الإنسانية المجلد الأول جورج جرداق
تفسير الأمثل
نهج البلاغة
كتاب السيد هادي المدرسي كيف تستخدم طاقاتك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق