بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 5 مايو 2018

لغةُ القديسين

*لغةُ القديسين*
زينب غلاب.

أَرهفْ السمّع..
فثمّة حديثٌ سيُتلى..

حديثٌ تاه فيه كُثر..
وتخرّص بتفسيره الأكثر..

أوحدِّي الدهر..
فلا الزمان تعرّفه ..ولا المكان..

خطّته مواقف التاريخ بخيباتٍ متلاحقة..

بينما صاغته يدُ القداسة بمداد {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ _ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ}1..
وقِرطاس[ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله ومعه وبعده]2..

إنّه حديث المرحلة الأخطر في تاريخ الإسلام..
كلّ الإسلام..

يحكي غربة الروح..
بعد توديع النبي..
في رُبعِ قرنٍ من الزمان..

ولأنّ التاريخ ضنينٌ في إنصافه..
تتلاعب بأوراقه العمّلة الأصعب..
لذا سُنجانبه..
إلاّ ما ألجأتنا الحاجة إليه..

هاهُنا..
سنقرأ حديثنا على مُكث..
سنتلوه مُصطبغاً بالإنسانيّة بكل تجليّاتها ومعانيها..

ووحده من يملك حسّاً إنسانياً..
سيلُوذ بالصمت..
علّه يسمع ملحمة العطاء..
في زمن الجدب..

ولأنّ الحديث عن أُعجوبةٍ كعلي..
هو اقترابٌ من الغيب..
بل هو غيبٌ في حقيقته.. 
سنُشاطر وحي السماء بعض بوحه في عليّ ع..

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ }3.

موقفان..
يُحاكي أحدهما الآخر..
ويمتدّ فيه..

التأمّل في أحدهما حريٌ بكشف أستار الآخر، كونهما حقيقةً واحدة تمثّلها أُنموذج الإنسان الكامل في مرحلتين مختلفتين..

وكأنّ أحدهما مرآةٌ لحقيقةٍ كُبرى تجلّت بعد حِين..

حِيناً تدّثر بالكِساء..
والشّرك يُحدِّق بالمقام..

ودهراً آثر الإنزواء..
ويدّ النفاق تملّكت الرقاب..

الأول يحكي ليلة المبيت في حادثةٍ هي أشهر من نارٍ على علم في سِجلاتِ علي ع..
حينما تهاوت كلّ صنوف الرغبات أمام مايجُول في خاطر شابٍ باع نفسه لله لا لشيءٍ سوى ابتغاء مرضاته..

[أوتسلم يا رسول الله إن فديتك نفسي؟]4

وبثغرٍ باسم..
أردفته سجدةٌ في محضر المعشوق..  شكراً..
يرسم أعلى رُتب التسليم للقيادة الإلهية [فداك سمعي وبصري مُرني بما شئت تجدني مُطيعاً مُنفذاً]5..

لكنّ المشهد لم ينتهِ بعد..
فللتوّ قد ابتدأ..

فلقد حُمِّل علياً وقتذاك مسؤولياتٍ جِسام كان على رأسها حفظ نفس النبيّ الخاتم الذي يُخفي في حقيقته حفظ الإسلام، فإنّ أيّ خطأٍ أو تغيير في التدبيرات التي أجراها رسول الله قُبيل هجرته كانت كفيلةً بتعريضه للخطر.
_قضاء دين النبي وردّ الودائع لأصحابها.
_الحاق الفواطم به إلى المدينة.

وكان بمستوى ذلك..
بل أكبر من ذلك.. 
بشهادة الحقّ تعالى حين أنزل فيه قرآناً لايندرس أثره..

أمّا لو سايرنا التأريخ قليلاً لنصل إلى بُعيد استشهاد النبي ص فإنّ تجليات المشهد الثاني ستلوح في الأفق..
في خمسةٍ وعشرين عاماً..
طافت حولها كلّ أبجديات الحياة..
وتوقّفت..

[وإنّه ليصبرني على ما أنا فيه أنّ ذلك كله في الله ورسوله]6..

صورةٌ يتيمة.. 
سكنت قِبالها القلوب الحيّة..
ووحدها الأعين من باحت في شجن..

ولأنّها عصيّة على الأذهان..
كثُر حولها الّلغط..

هاهُنا سنُبصر ذات المشهد الأول..
لكن بفوارق عدة..
فحمل عليٍ بات أكبر كونه الممثّل عن الدين..
لذا حُمِّل ثقل الرسالة..

{ولقد كان رسول الله عهد إليّ عهداً فقال: يابن أبي طالب لك ولاء أمتي،فإن ولّوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم،وإن اختلفوا عليك فدعهم وماهم فيه}7

وتتجلّى الطاعة المطلقة لوصايا الأنبياء في مِنهاج الوصي..

إنّها الأمانة..
في زمن اليباب..

وحديث الوفاء..
في زمن الغدر..

بوح الأمين الذي صان الأمانة..
بل افتداها نفسه..

ولأنّ لكلِ أمانةٍ طريقةَ حفظٍ تتفاوت وقيمتها..
تعاهد عليٌ أمانته بالصبر..

[فصبرت وفي العين قذىً وفي الحلق شجى]8..

نحن عندما نصبر نمتطي مركباً ذا أشرعةٍ بالية..
فنرى البعض منّا لايُراوح مكانه..
منكفأٌ على ذاته،يُمنّي النفس..
لعل أمانيه تُورق ولو بعد حِين..
لأنّ الصبر لديه ذا مفهومٍ تقهقري سلبي..
والمركب البالي لاطاقة له على مواصلة المسير..

لكنّه لدى القديسين يعني دستور سماء..
بالثبات على المبدأ..
والمضي قُدماً نحو تحقيق الهدف بشكلٍ يتلاءم مع الظروف الراهنة..

وببيانٍ أوضح نستطيع القول أنّ ماحدث تغييرٌ في الاستراتيجية المتبعة لا أكثر..

لأنّ أهدافهم هيّ أهداف السماء..
التي لاتقبل المساومة أو التأجيل..
وماعداه عرضٌ لايستحقّ حتّى مجرد الالتفات إلاّ بمقدار مايخدم تلك الأهداف..

لقد امتطى علياً مركب الصبر..
متجرّعاً الغصص آناً بآن..
حتى أرسى أشرعة الإسلام على شُطآنها الحقّة..

فكان كالترياق الأعظم لكلّ ماحلّ بالإسلام آنذاك..

فكيف تعاهد المولى أمانته بالصبر؟!

[والله لأُسالمنّ ماسلمت أُمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلاّ عليّ خاصة التماساً لأجر ذلك وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه]9.

إنّ المقارعة بالسيف آنذاك تعني بقاء أحد الأطراف فإما علياً وإما الجهة المناوئة الذي يعني في واقعه انمياث الإسلام..

فصان الأمانة..
حين حفظ نفسه..
وأبقى على وحدة الأمة..

ولأنّ الحق لاهوادة فيه..
ولا يقبل أنصاف الحلول..

يعلنها صراحةً في وجه المتبجحين.. 
[لو فعلتَ ذلك لعدّلناك بسيوفنا]10..

في مواجهةٍ مكشوفة..
لمن ارتقى مرقاةً هي أبعد ماتكون عنه وقال متجرئاً(ماذا كنتم تعملون لو أنا صرفناكم عما تعلمون إلى ماتنكرون)11..

ولأنّ الأخذ بأيدي الناس نحو تطبيق منهاج السماء..
هيّ جلّ مايلُوح في قلب الأمين..
لم يكن لشخوص الأنا موقعيةً لديه..

فكان الأقرب عند كل نائبة..
والأول حين يعتري القوم اليأس..

(يا أبا الحسن،لا أبقاني الله لشدةٍ لست لها، ولا لبلدٍ لست فيه)12.

وتترنّح الخلافة لعلي..
في أولّ عروضها إليه..
لكنّها مشروطة..
لأنّها لذوي النظرة الضيّقة لاتعدو أن تكون شخصاً مكان آخر..

لكنّها عند الأمين نقلةً نوعية..
من النقيض إلى النقيض..
لانها التزامٌ بشريعة السماء التي غُيّب الكثير منها آنذاك..
 
وهل الشريعة معرَضٌ للأهواء..
لتتقبّل الزيادة والنقيصة؟!

ويشير إلى هذا الموقف الدكتور إسماعيل الشطي  (ولقد كاد الجيل الأول من المسلمين رضوان الله عليهم، أن يجعل من تجربته السياسية والتنظيمية في إدارة الدولة جزءاً من الشريعة، لولا تصدّي الإمام علي بن أبي طالب،كرّم الله وجهه،لمثل هذه المحاولة……  وبتضحيته هذه، أوقف الإمام -كرّم الله وجهه- زحف الثابت من الدين إلى حدود تلك المساحات)13..

هيّ..
بعضُ إلماحاتٍ ليس إلاّ..
لأنّ الإلمام بمسيرة ربع قرنٍ من الزمان..
بعيدةٌ عن إدراكاتنا..

وبهذه الأمانة عاضّد علياً النبوة وقتها..
وتمثّل دوراً أساسياً بعد رحيلها..
فكان وعاءً يتّسع لكل ماأُودع فيه..

والآن دعنا نُكاشِّف الواقع!!
الواقع الذي عايّشه علياً..
[وعالمٌ بين جُهال]14..

والواقع مابعد رحيل عليّ..
حيثُ غبنه حقه..
بقراءته اللامسؤولة!!
وتفكّره السطحي في الأحداث!!
وعبر الأقلام المأجورة التي حرّفت تاريخ أمة!!
وأُخرى لم تفهم علياً حين خطّت كلماتها فيه!!

لأنّه من العبث أن نُسائل الأمين لمّ صان أمانته عن التلف؟!

وبعد كلّ هذا..

هل يصحّ أن نحدّ علياً في فترتين من الزمان تمثل أحداها حياة رسول الله ص والأخرى سنوات حكمه الفعلي!

وهل من الانصاف أن نُغفل هذه الفترة من حياته ونسمها بالسكوت دون أدنى إلماحٍ لحيثياتها وهي تفوق في عطاءاتها مقارعته بالسيف بين يديّ المصطفى ص؟

هاقد طوينا بعض صفحات التاريخ..
لتصل الكرّة إلى حيث أنا..
وأنت..

ولأنّ الحديث عن سيرة المعصوم لاتُمثّل في أيّ جزءٍ منها بعثرةً فكرية أو أحداثاً تجريدية،بل تُشكّل في واقعها الفعلي قاعدة حياةٍ تُحرّك فينا كلّ جميلٍ أفلتناه..

لذا لابُدّ لنا أن نُسقط كلّ فكرةٍ على واقعنا..
لنعيش الحدث في عمقه الروحي..

إذاً دعني أُسائلُكـ..
كم أمانةً تُطوِّق عُنقك!!

يمّم وجهك حيثما شئت..
لتُبصر من الأمانات مالا عدّ له..

لكن أهمّ مايُطوق أعناقنا..
ثلاثاً تشكّل بمجموعها رأس الهرم في رصيد كلٍّ منا..

نعمة الإنتماء لجنس الإنسان {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}15..
شرف الإنتماء لدين النبيّ الخاتم {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ}16..
تُجلّلها أمانة الإنتماء لعلي [فولايتهم أمانةٌ عند خلقي]17..

ولكن..
هل تمثّلنا الأمانة فيها!
لنعيدها كسابق عهدها مسربلةً بالنقاء..

أم غدت صوراً شوهاء..
لا تمتّ لبداياتها بصلة!! 

ويبقى نهج عليٍ..
معينٌ لايقبل الفناء..

فلنقترب من علي..
ففي قربه حياة..  

المصادر:
1/الحجر (97،98).
2/اللمعة البيضاء/التبريزي الانصاري/ ص169.
3/البقرة(207).
4/أعلام الهداية/سيرة الإمام علي ع.
5/المصدر السابق.
6/الارشاد في معرفة حجج الله على العباد.
7/ الخصال للصدوق/بحار الانوار ج ٣١.
8/نهج البلاغه/الخطبه الشقشقية.
9/حياة أمير المؤمنين على لسانه ج3.
10/أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف.
11/المصدر السابق.
12/الغدير ج6.
13/ إضاءات من سيرة أهل البيت ع للشيخ حسن الصفار.
14/وسائل الشيعه ج3.
15/الإسراء( 70).
16/الأحزاب( 72).
17/بحار الأنوار ج26.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق