*لا مناص للتعري !!*
فاطمه عواد
مُفردة طاغية الفحوى بكل ماتحويه حروف هذه الكلمة من معانٍ و مُترادفات ، إحدى العوارض الفتاكة التي تطرأ على الفِطرة النقية ، المُطمئن إنها ذات شِباك عنكبوتية ، فعلى الرغم من عِشقها للإندساس بعيدًا عن الضوء ، إلا أن خيوطها المترهلة تبدو أشد سطوعا ، إذا ماتكشفت للبصير أُولى ضحاياها , فمن كلام الامام موسى الكاظم (عليه السلام ) لهشام ابن الحكم هذه العقلية الجبارة و الفيلسوف العظيم .. (يا هشام اعرف العقل وجنده ، والجهل وجنده تكن من المهتدين ، قال هشام : فقلت : جعلت فداك لا نعرف إلا ما عرفتنا . فقال عليه السلام : يا هشام إن الله خلق العقل وهو أول خلق خلقه الله من الروحانيين عن يمين العرش من نوره فقال له : أدبر ، فأدبر . ثم قال له : أقبل فأقبل . فقال الله عز وجل : خلقتك خلقا [ عظيما ] وكرمتك على جميع خلقي . ثم خلق الجهل من البحر الأجاج الظلماني ، فقال له : إدبر ، فأدبر . ثم قال له : أقبل ، فلم يقبل . فقال له : استكبرت فلعنه )".(١)
الحديث حول الجهل المقيت وكاريزماه المُظللة ( الجاهل المثقف ) يحتاج لنفس طويل جدا ، لأنه الأرضة الشرهة التي تلتهم وريقات الفكر والعلم والمعرفة بقرف يدعو للتقيؤ , فكثرة التهم المنسوبة منه وإليه تفوق عدد الذرات على كوكب الأرض ، ( كَفى بِالجَهلِ ذَمًّا أن يَبرَأَ مِنهُ مَن هُوَ فيهِ ) !! (٢)
عجبا أن يحتمل اللفظ مالا يطيقه , الثقافة روح الحياة , صانعة الإنسان السوي , هل يعقل أن تلوث وعلى مرأى ومسمع من رأس الهرم في الأمة ؟!
الإجابة على هكذا تساؤل استنكاري يستفز كل قارئ لأن ينتشل نفسه و واقعه من هكذا هوة خانقة , فيما مضى كان لقب المثقف لعبة بيد أصحاب الشهادات والمناصب العليا , دون أن يعلو صوت أحدهم , اليوم بات واضحا ان صاحب اليد الطولى في هذا المضمار ( الآخذ من كل علم بطرف , و اللعبة باتت أشد ضراوة ، فبلإضافة لإدعائهم ما ليس لهم , باتو و بكل جسارة يجلسون على ضفافها علانيةً وفي وضح النهار , يتسكعون في معارض الكتب , يترأسون مؤسسات الثقافة والإعلام , دور النشر والطباعة , و يتبوأون مقاعدها الأمامية , و حين الجد و في أبسط الأمور الحوارية هم خارج دائرة التصنيف والتعريف , فالحديث لمن دونهم , وحين الهرج والمرج تعلو ضحكاتهم , كأنهم في رحلة استجمامية على إحدى اليخوت الباذخة (( إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ )) (٣).
أين مكمن الخطر؟!!!
سؤال تفجعي لا أكثر ، إذا كان أساس بعثة الأنبياء والأوصياء منصب في استنقاذ الناس من الضلالة وحيرة الجهالة , فوجود أمثال هؤلاء ماذا يمثل سوى المتردية والنطيحة في وجه تحقيق أهداف السماء , و هذا مابينه أمير المؤمنين واصفا ماآلت اليه الحال قبل طوفان من السنون : ( لا يَزكو مَعَ الجَهلِ مَذهَبٌ )(٤) , الزكاة بمعنى النماء , والحقيقة أن أي مشروع تنموي حضاري وفي أعلى درجاته المشروع الإلهي , إذا تلبس أحد أطرافه جاهلٌ ممن لايحسنون صنعا , فهو معرض للقهقري بلا شك !
الآن و بعد تفشي المرض لابد وأن صافرة الإنذار, ستطلق استغاثتها على جميع الأصعدة , ((يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ)) (٥) ، هنا يبرز دور المثقف المتدين في أعظم وظيفة عبادية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , فآحاد الناس و إن أعطو وبذلو مابذلو , تبقى القيادة بيد العالم العارف, فما أفرزه أشباه المثقفين من تدني ملحوظ في الفكر والسلوك , مما يندى له جبين العقلاء , في ما يطلق عليه بظاهرة التخلف الثقافي , أمر لايمكن السكوت أو التغافل عنه والذي تعد أبرز صنائعه :
1/ شيوع حالة الخنوع والخوف الأفيوني , بالإعتماد الكلي على استيراد العقول بنظرياتها من الخارج بدلا من تنمية وغربلة البيت الثقافي من الداخل .
2/ التشبث بالموروثات الهزيلة المنافية للدين والعقل بما يسمى بالخرافة .
مجمل ماكتب هنا و ستكتبه الأجيال لاحقا , ليس تباكيا على أطلال ضُيعت في ليلة هرير باردة , فمجتمع يسوده البُكم بلا ريب مرمى للنهب و الحسرة , يتطلب منا كخير أمة أخرجت للناس , تحمل راية ( اقرأ ) تحركا سريعا ونافذا , لإنقاد ماتبقى , بإثارة السؤال لإستجلاب دفائن العقول ( لم , كيف , حتى متى..), إحدى المهارات التي تبناها القرآن بين دفتيه وأهل البيت في مجمل فصول حياتهم لتنمية التفكير الإبداعي لأكرم خلق الله وأشرفهم تفضيلا , وخاصة في مجال الإرتقاء بالمعرفة الفطرية عبر التذكر و المكتسبة عبر التعلم , بل و منذ رحلة الخلق والإيجاد ، مرورا بعالم الذر والعهد والميثاق والأرحام و.... (( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى )) (٦) , الإستفهام دواءٌ لصنوف الأدواء التشريحية منها والسريرية , و التي أثبتت جدواها في نفير من القضايا العصيبة التي أردت برياحها كثير من المتقاعسين , ورفعت القلة القليلة الى أعلى عليين (( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا )) (٧) , في الآية تقرير صريح بأن مدار النعمة اللآلٰهية طاعة الرسول ومن خلفه من بعده , أوليس هو القائل , وماينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى : "من منَّ الله عليه بمَعرِفةِ أهلِ بيتي و ولايتهم فقد جمع الله له الخيرَ كُله " (8), وعلى النقيض الجاهل لمعرفتهم خسر الدنيا والآخرة ..
الشواهد على نجوع هذه الطريقة أكثر من أن تعد أو تُحصر في عجالة هذه السطور ، [ تردد رجلٌ في يوم الجمل في أمر عليّ (عليه السلام) وطلحة والزبير وعائشة ، يقول في نفسه : كيف يمكن أن يكون مثل طلحة والزبير وعائشة على الخطأ ؟! وذهب إلى الإمام علي (عليه السلام) وسأله : أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟! فقال (عليه السلام) : (إنك لمبلوس عليك، إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله ))..
على وقع إصطكاك أسنة الضياع و غياب نتجرعه ، لا مناص للتعري من المسؤليات ، فهل يرتدُ الأعمى بصيرًا ، فيُؤتي أُكله الأنيق سابق العهد ؟؟؟
بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ١ - الصفحة ١٥٨
منية المريد : 110 ؛ و راجع المحاسن والمساوئ : 399 .
سورة الأنفال (22)
غرر الحكم : 237 ، 10542 ، 3856 ، 3444 .
سورة الروم (19)
سورة الأعراف (172)
سورة النساء (69)
أمالي الصدوق: 383/ 9.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق