بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 5 مايو 2018

وجه الإسلام الأصيل

*وجه الإسلام الأصيل*
فاطمه القصاب.

في الفترة التي أعقبت وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله تنكّر الكثير للإسلام وانقلبوا على أعقابهم، فالمجتمع الإسلامي كان يستبطن قدراً كبيراً من عدم النضج والوعي إما بسبب حداثة العهد بالإسلام وعدم زوال الرواسب الجاهلية التي توطنت في النفوس، أو بسبب كونهم من المنافقين الذين دخلوا الإسلام استسلاماً للأمر الواقع أو انتفاعاً أو طمعاً وحرصاً على الجاه.وقد وصفهم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في الخطبة القاصعة بقوله ( أَلا وإِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ وثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ ... واعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً ، وبَعْدَ الْمُوَالاةِ أَحْزَاباً . مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الإِسْلامِ إِلاَّ بِاسْمِهِ، ولا تَعْرِفُونَ مِنَ الإِيمَانِ إِلاَّ رَسْمَهُ ... أَلا وقَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الإِسْلامِ، وعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ، وأَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ ... )."1"

فتصدّى عليه السلام بحكمته ونهجه لحماية الدين وصونه من العابثين، فأورث دستوراً عملياً ونظرياً تناقلته كتب التأريخ مع ما كان من محاولةٍ لطمس الكثير منها وتزويرها.

ولو استُغل هذا الإرث وطُبِّق فسيؤتي ثماره بإظهار الإسلام المحمدي الأصيل.

مِللٌ ونِحَلٌ تعدّدت مسمّياتها فكان الانحراف سِمةً لبعضها كالمرجئة والجبرية والخوارج، والتحجّر والجمود قاعدةً لغيرها كالسلفية والصوفية.
تلك المشارب والمذاهب التي ظهرت نتيجة الجهل والخوف والتنكيل ، والإكراه والتعنّت والتكلّف أدّت للنّخر في معتقدات الناس ومعارفهم وتركيز الفساد في أفعالهم فأضحى الدين غريباً.

ومع المحاولة المستميتة لإقصاء الحق المتمثّل في عليٍ عليه السلام إلاّ أنّه ظلّ يُصارع مع الصفوة من الأصحاب قائداً ومُعيناً ومُلهماً للصمود والاستمرار.

فاختلفت سُبل العلاج التي سلكها الإمام علي عليه السلام تبعاً لطبيعة الآفة ونوعها ، فمنها ما كان يحتاج إلى الحكمة والموعظة الحسنة كما ذكر في حواره عليه السلام مع الخوارج أمثال زرعة بن البرج الطائي وحرقوص ابن زهير السعدي حين استمرّا في غيّهما فقال عليه السلام: "إنّ لكم علينا ألا نمنعكم مساجدنا ما لم تخرجوا علينا ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا"."2"

ومنها ما كان يحتاج إلى القوة والغلظة حين صعد أحدهم مع ما كان له من مكانةٍ آنذاك وتساءل عن رد الفعل لو صرف الناس عمّا يعرفون إلى ما يُنكرون، فردّ عليه الإمام (عليه السلام) بكلّ وضوحٍ وصراحة: "إذن نضرب الذي فيه عيناك" "3" إصراراً على صيانة الدين.
 
والعدل المطلق بين فئات المجتمع كما حدث عندما تعدّى النجاشيّ حدود الله في شهر رمضان فشرب الخمر، فأقام الامام علي عليه السلام حدّ الله عليه، فما كان شِعْره شافعاً له حين استخدمه في الدفاع عن الإمام في حرب صفين ضد أعدائه.
ومن العجب أن تأخذه العزّة بالإثم، وتأخذ معه طائفة من اليمانية، فيها طارق بن عبد الله بن كعب النهدي،عندما غضبوا له لا لله، فمشوا بمنطق الاستكبار والاستعلاء إلى الإمام يحاجّونه وينكرون عليه ما كان، فقال له طارق: يا أمير المؤمنين؛ ما كنّا نرى أنّ أهل المعصية والطاعة، وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيّان في الجزاء، حتى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحارث.
فما كان جواب الامام إلاّ أن قال "يا أخا نهد، وهل هو إلاّ رجلٌ من المسلمين انتهك حرمةً من حرمات الله". "4"

والانتصاف للناس قولاً وفعلاً كما ورد في قضايا وحوادثٍ متعددة ، فقد قال عليه السلام "وأن تكونوا عندي في الحق سواء" "5" " الذليل عندي عزيز حتى اخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى اخذ الحق منه"6".

وصيانة الحقوق، "والله لئن أبِيت على حَسكِ السعدان مسهّداً، أو أُجَرّ في الأغلال مُصَفّداً، أحبّ إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلمُ أحداً لنفسٍ يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها..."."7"

ورعاية الضعفاء، فقد ورد أنّه عليه السلام مرّ بشيخٍ كبيرٍ مكفوف البصر يسأل الناس الصدقة فقال أمير المؤمنين عليه السلام: "ما هذا؟"  قالوا: نصراني. فقال عليه السلام: "استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه؟ أنفقوا عليه من بيت المال". "8"

أمّا العصر الحاضر فليس بذي عصمة مما كان في الماضي، حيث أنّ مظاهر الانحراف تتكرّر مرةً أخرى وبمسمياتٍ شتى،كلّ مظهر ٍله صبغته في فهم الدين والتدين . فمنهم من تنطّع ومنهم من تعنّت ومنهم من أفرغ الدين من محتواه، وكلّ فرقةٍ تجر النار إلى قرصها، وكلما ظهرت أمة لعنَت أختها وكلٌ يدّعي الحق ويرسم حدوداً لدينه تبعاً لفهمه.

فما السبيل الى النجاة إذاً؟!
ًوما السبيل الى الصواب؟؟

القُرآن الكريم لم يُحرّف كما فُعل بالتوراة والإنجيل، فهناك عهدٌ معهود من قبل الباري عز وجل بحفظه من أيدي العابثين.

إذاً ما نعانيه اليوم من غربةٍ في الدين وتشويه مِمَّ ولِمَ ؟؟

فيما يلي نستعرض بعض  الأسباب التي أدت إلى ذلك ، وبإيجاز:
1.الخلط بين مفهوم الدين المتمثل في التشريع الصادر من الله تعالى والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وبين المصطلح الذي ظهر في الفترة الأخيرة ((التدين)) والذي يُقصد منه تطبيق الشريعة وفهمها.

2.الأنماط المختلفة في توجّه الناس إلى الدين وامتثاله ، فالدين الصحيح يرتكز على ثلاث ركائزٍ تكاملية لا غنى لأيٍّ منها عن الأخرى، وهي:
(أ) ركيزة العمل المتمثلة في الطقوس والشعائر.
(ب) ركيزة الفكر المتمثّل في العقائد التي يؤمن بها الفرد.
(ج) ركيزة الروحانية المتمثّلة في الإيمان بالله تعالى.
وترجيح كفّةٍ على أخرى أو الاقتصار على بعضٍ منها وإهمال عداها يخلّ بالتوازن.

3.مصدر المعارف الدينية ونوعيّتها فمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حدث التّحريف والتزوير والطمس ، فحاد الكثير عن الحبل المتّصل بالسماء ، والذي أوصى به رسول الله محمد صلى الله عليه وآله متمثّلاًً في كتاب الله وعترة النبي أهل بيته صلوات الله عليه وعليهم، فنشأ التخبّط والميل فمُنِع تدوين الحديث، وحُرِّق ما جُمع منه، ومُنع تفسير القرآن الكريم وتأويله، ونُفي الخُلّص من المؤمنين وعُزِلوا. كلّ ذلك أدّى إلى مصادرة المعارف الدينية الصحيحة والتعتيم عليها ؛ لتُستبدل بالقصّاصين والأحاديث الموضوعة من مَسْلَمة أهل الكتاب والمنافقين ، فاختلط الصحيح بالسقيم والحقيقة بالخرافة . يقول (عليه السلام): ".. وخَلَّقَ فينا راية الحق، من تقدّمها مرق، ومن تخلّف عنها زهق، ومن لزمها لحِق"."9"

4.العنصرية الفكرية والحزبية والتي تحدّ الفكر والنهج ، فميزان الحق ليس القوة والكثرة كما يعتقد البعض، ولا في الأشخاص مهما كان تاريخهم، وإنّما الصواب هو معرفة الحق والباطل، وعلى أساسهما يُقاس الناس. كما قال عليه السلام "..إنّ دين الله لا يُعْرف بالرجال، فاعرِف الحقّ تعرف أهله"."10"

5.فشل المجتمع الديني في رسم خطّ التوازن بين ما يقوله وما يفعله ، فما يُقال في المدارس والمراكز الدينية والمؤسسات يحتاج إلى بيئةٍ مناسبة لتطبيقه ،وعندما يصطدم الفرد بالواقع المعاش الذي يناقض ما تعلمه يُصبح سلوك الفرد انتقائياً فيلجأ إلى مخالفة ما تعلّمه بحسب موقفه ومصالحه.

من خلال الأسباب المذكورة آنفاً ربّما يكون بالإمكان استنتاج بعض معالم الرجوع إلى حقيقة الدين على أصالته كما شرعه الدّيان.
واستجلاء هذا الأمر هو مسؤولية كبرى، تقع على عاتق كلّ فردٍ واعٍ في هذه الأمة بحسب ما لديه من وعيٍ وقدرة.

..........
1/ نهج البلاغة
2/البداية والنهاية لابن كثير الجزء 10
3/مناقب الخوارزمي، موفق بن أحمد الحنفي: 98 تحقيق مالك المحمودي.
4/الغارات، ج 2، ص 901 و .902
5/نهج البلاغة
6/ نهج البلاغة
7/نهج البلاغة
8/التهذيب 6: 292 | 811.
9/نهج البلاغة
10/نهج البلاغة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق