رسائل مختلفة...
عجبت للرسائل كيف تحمل بين طياتها حياة متكاملة، بإخفاقاتهاو إنجازاتها ، فكل حرف يمثّل حدثاً ،
وكل جملة تحمل فكرة .
وعندما يخلق أحدنا رسالته تكن هي جزءًا منه ، ولاينهيها حتى يكون هو جزءًا منها.
وأجمل الرسائل هي تلك الرسالة التي لم يعد صاحبها يقوى على الصمت عنها أكثر ، فهاهو حبيب يقف على رأس جبل عالي وبين الوديان حبيب له يقطن ، وكل منهما يرمي ببصره بعيدًا يبحث عن ضالته ، فتصعد رسالة وتهبط أخرى ،وتتلوّن حينها الحياة بالمشاعر ، وتتلاقى الأرواح وإن لم يكتب لأبدانهما الإلتقاء ،وتغدو الرسائل حينها أنفاس تتصاعد في صدر الحياة،وهذا صنف وماعداه أكثر.
وأجلّ الرسائل هي تلك التي تعيد تعريف الأشياء ؛ لتقدّمها للغير بمنظار جديد ورؤية جديدة، وأعمق الرسائل هي أوجزها ، وأعظم الرسائل ماصرّح بها صاحبها مشافهة ، فالقلوب أكثر احتواء من الورق .
ورسالتنا اليوم جمعت بين كل ذلك ،
فهي مختصرة مابين كلمتين ، ومابين قلبين ولكنها عنت أمة بأكملها.
إذ أطلقها رسول الأمة ، وقالها خالدة (فاطمة أم أبيها) ،لم تكن رسالة فقط؛
فرسالة العظيم منهاج ودستور ، ماكانت هذه المقولة رسالة ظرفية ولم تحد ببيئة أو زمان ، وماكان ماتحمله من حقيقة خالية من الهدفية والمقصد ، وماكانت شعور ملتهب يتأجج حينًا ويخمد حينًا آخر.
بل كانت رسالة مختلفة.
إذ بدايتها كانت تحكي لنا قصة يتيم عاش الوحدة كما لم يعشها أحد ، فهاهو لايتعلق فؤاده بأحدٍ حتى يفقده .
فواجه كل هذا الفقد بقلبٍ يبحث عن الحب وهو الممتلئ به ، وماروى هذا الظمأ إلا فاطمة.
فاطمة التي متى تعلّق بها حتى اكتشف أنّ أمه قد بعثت من جديد .
فأطلق عندها هذه الكلمة الخالدة
(أم أبيها)
أبيها الذي عاشت معه العشق حتى امتزج بكيانها كله ، حتى إن مشيتها متى أقبلت غدت لاتخطئ مشيته وأكثر من ذلك .
ففي كل يوم لها معه كان يعطيها روحا من روحه ، وخلقًا من خلقه ، وعقلاً من عقله ؛ حتى حازت شرف هذه المقولة بكل استحقاق ، ولا شك في كل ذلك فهو الذي لاينطق عن الهوى .
وهذا إن دلّ على شيء فقد دلّ على أداء السيدة لمسؤولياتها بكل جدارة .
حتى ارتقت من منصب (الابنة) الى منصب أعلى (الأمومة).
وماتخلّت عن منصبها السابق إذ عبّر رسول الله عن نفسه بلفظ أبيها.
هذا يعني أن السيدة قامت بدور مزدوج .
دورٌ ملأ الرسول بعاطفة الأبوة ولمس معه ايضًا عاطفة الأمومة في نفس الوقت.
وهذا دليل جليٌ على الشعورالعالي بالمسؤولية الذي خالج روح السيدة مع الرسول ، ومع رسالته من بعده.
والشعور بالمسؤولية ماهو إلا التزام ينمو مع الأيام ، وتتّسع دوائره كلما اتسعت معارف الإنسان .
وهذا الشعور لايأتي من فراغ ؛ لأنه سلوك وموقف ، وكل سلوكٍ بحاجة الى إرادة صلبة تترجم به كل الأحاسيس المستترة إلى حراك فعال. والمؤمن له جولةٌ معتدّ بها في ساحة المسؤليات ، فهو يرى أن الحر هو الذي ينبغي أن يكسب الحرية للعبيد ، والعاقل هو الذي ينبغي أن يفكر للمجانين ، والسعيد هو الذي ينبغي أن يعمل من أجل التعساء.
فهو يرى كل أموره ضمن إطار المسؤوليات ، وفوق كل هذا فهو يتمثّل قول أمير المؤمنين (إذا فعلت كل شيء فكن كمن لا يفعل شيء)
والرسول بمقولته نصّب السيدة الزهراء شمساً في سماءالمسؤوليات.
فالرسالة التي أطلقها لم تعبّر عنه فقط كماهو المعتاد ...بل حكت عمّن وصلته أكثر.
فالزهراء رغم كونها (أم أبيها) إلا أن ألمها الحقيقي بعد فراق أبيها لم يكن لموته وحسب .
فهي تدرك أن لكل إنسان نهاية ، وأنّ البداية ستكون لرسالته بعده ، وهذا
أكثر ما آلمها إذ أنّ رسالة أبيها ما إن رحل حتى دخلت في حشرجة الرحيل أيضا.
وماقطع فؤادها إذ غدت رسالته بئرًا لايتّسع ريًا لأكثر من هاجر ورضيعها.
لذا أصبحت (أم أبيها )بعد وفاة الأب (أم لرسالته).
فهي ماكادت تفيق بعد لملمة مصاب الفقد المرير ، حتى تكشّفت أمامها خيوط المؤامرة .
فانتفضت كما لم ينتفض أحد ،
انتفضت بكل قوة لعل وعسى تتذكّر
الأمة مسؤولياتها ، تستفيق ولاتمتدّ بها القيلولة إلى سبات عميق لا يغادرها.
نعم قاومت وقامت وتجاهلت مابها من مصاب ، فقط لتبني للإنسان رسالة يمضي بها.
ومنهج يحيا به.
فالزهراء رسالة قارئيها
ووطن لساكنيها .
ولا عجب فهي أم أبيها.
ورسالتها كان بدؤها مع يتيم عظيم
ونهايتها مع نصر عظيم.
فذلك وعد الله.
ليلى الصادق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق