بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 5 مايو 2018

نِثار الحب

*نِثار الحب*
زينب غلاب
في زمن الأنا.. ودسّ الضمير..
وحين نفث الشيطان في مسامع أحدهم لينطق بالإثم..
فاحت رائحة البغي التي تُزكم الأنوف..
وتزاوجت في تلك اللحظات محنٌ وآلام..شكّلت بمجموعها مُنعطفاً خطيراً في حياة الأمة الإسلامية،وبوابةً مشرّعةٌ نحو مستقبلٍ مجهول الهويّة..
فروح محمدٍ للتوّ فارقت دنيا الفانيات..
وحجبت طقوس المنكر وصيّه خلّف أستار الحقيقة..
وغدتْ رُسل القوم تترى..

وبعيداً عن سلاح القوّة الذي يزيد الهوّة ويعمّق الخطر..
سادت فاطمةَ الموقف آنذاك..
فخاطبت العقل من خلال قلبٍ عايش إنسانيّة الأمة كل الأمة.. 
معيدةً للأذهان منهاج محمد.. 

ولأنّ الغالب على قرائتنا لتلك الفترة من تاريخ الإسلام،الحديث عن الظلامة وأبعادها،سنعنونه بآخر يحمل طابعاً إيمانياً يُشاطر أهداف الأنبياء،
فإنّ من يحمل سِمة التبعيّة لرسالة النبي الخاتم لازالت ذاكرته تعصِّف بقوله تعالى{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}1 فكيف بمن تنفّست عبق الرسالة وعايشت كلّ همومها وآلامها ؛
لذا كانت وقفتها تلك مصداقاً جلياً لفلسفةٍ تشريعية أناطت اللثام عنها في خطبتها الفدكية حينما قالت ع"والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصلحةٌ للعامة"2 في سلسلة حديثها عن الفقه المقاصدي.

هُنا تجلى الدور الفاطمي وبرز بصورته الأكثر فاعلية، على أننا لانُنكر دور الزهراء ع في حياة أبيها ع فقد ساهمت مواقفها المتعددة في تدعيم واتساع المشروع السماوِّي،إلاّ أنّ ذلك الدور الذي مارسته بعد رحيل خاتم الأنبياء كان دوراً جوهرياً أساسياً باعتباره استكمالاً للدور النبوي وسنداً للإمامة من جهة ،  ومن جانبٍ آخر فهو توظيفٌ نهضوِّي لجميع الإمكانات المتاحة والفرص المشرّعة في سبيل قيام ولي الله بدوره المناط به،ليكوّنا معاً درعاً حصينةً في طريق الغاصبين ، ويرسما آفاقاً واضحةً لمن أبصّر الحقيقة،في خطٍ جهاديٍ واحد،وإنّ تشعّبت طرقه.

ولعلّه من المناسب بدايةً الحديث عن الهدف الكامن وراء مرامي الإسلام من بعض التشريعات في الخطبة،ولكي تتضح الصورة سنطرح أُنموذجان أحدهما يقف في الطرف النقيض للآخر..
الأول فارقته الروح وغابّ عنه الجوهر،فكان صورةً جرداء ذات طابعٍ أجوف..
أمّا الآخر فقد مازجه الشعور فولج الروح واتّسق مع الفعل،فكان باطنه وظاهره سواء..

إنّ الأول يمثّل عين الواقع الفعلي للأعم الأغلب من تطبيقاتنا نحن البشر لشريعة السماء..
أمّا الثاني فهو ذا عُمقٍ لايفهمه إلاّ من تشرّب الإيمان وولج ساحة قُدسه من حيث أمرّ الحق تعالى..

لذا كان أيّ عملٍِ يُعانق السطح مبتعداً عن العمق بلا ثمرةٍ تُرتجى،ومعرفتنا للسر الكامن وراء كلّ معنىً ماهو إلاّ المفتاح الذي يُعطي العمل حركةً وحيويةً ، وبُعداً روحياً نصل من خلاله إلى التطبيق الحقيقي لتلك المفردات كما أرادها الشرع..

إنّها قنطرةٌ من رحمة الربّ..
ذات ثلاث أفرع يُكمل بعضها الآخر.. 
ّصيّرها لعباده..
لنكون في يقظةٍ دائميّة..
تبتدئ مع الفرد في دائرته الضيّقةٍ..
وتنطلق للمجتمع..

الأول يمثل جهاز الرقابة الذاتي"الضمير"..
ولأنّ الإنسان يستطيع عبر تبريراته المتتالية وأْد تلك القوّة وإخراسها كليّة حتى لاتُعاود الإحساس بالذنب..
{أفمن زُيّن له سُوء عمله فرآه حسناً}3..

تزاوجت برقابة المولى عزّ وجلّ..
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}4
جسرٌ ممدود كفيلٌ بإيصال الإنسان نحو شُطآن الكمال..
شريطة أن نستشعرها..

لكنّ الغفلة تحوطنا..
لنسقط في مستنقعاتها الآثمة..

لذا وُسّعت الدائرة لتشمل المجتمع أكمل،عبر شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،أو كما تُسمى اليوم" النقد الذاتي المجتمعي"، فكانت جهاز رقابة من الكلّ،وإلى الكلّ..
وتكفينا موعظةَ روح الله عيسى ع لقومه لنُدرك عُمق الخطر المحدق بالمجتمع إن تقاعس عن وظيفته [إنّ الحريق ليقع في البيت الواحد فلا يزال ينتقل من بيتٍ إلى بيت حتى تحترق بيوتٌ كثيرة،إلاّ أن يستدرك الأول فيهم فيهدم قواعده،فلا تجد فيه النار معملاً،وكذلك الظالم الأول لو يؤخذ على يديه لم يوجد من بعده إمامٌ ظالم فيأتمون به،كما لو لم تجد النار في البيت الأول خشباً وألواحاً لم تحرق شيئا.. ]5

والآن ماالمانع من ضربِ مثالٍ حسي لتقريب الفكرة!!
مزرعةٌ بلا سياج تحوي قطيع خرافٍ وبعض الدجاج وكلب حراسة كلٌّ منهم هائمٌ على وجهه، لايهتدي لوجهته سبيلاً،يغير على الآخر وقتما يشاء دون رادع.
أرأيت حين يُقدم صاحب المزرعة على بناء سياجٍ لكل منها كيف يُسهم السياج برسم حدود تلك المعالم وتصييرها أكثر خصوصية،كما يحفظ مابداخله ويحميه ويحجبه عن أنظار الآخرين.

أترانا نُدرك أننا نبني سياجاً ذا قوةٍ لايُستهان به عبر كلّ أمرٍ بمعروف أو نهيٍ عن منكر!!
ما يضمن للمجتمع القيام بما فرضته شريعة السماء.. ويحفظه من كل دخيل غرضه إبعاد الفرد عن هوِّيته الإنسانية ، التي منها وبها تكتمل هوِّيته الإيمانيّة،كما يقيم أَوُده عند عطبه واعوجاجه، عن علي ع[قوام الشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]6

ولكي نُجانب التنظير..
سنسبر أغوار تلك المفردة بقراءة موقف الزهراء ع في العمق..

هيّ..
تزمّلت بالحبّ..
وانطلقت تبثّه عَبقاً عبر هِتافاتها..
فهي مافتئت تطوف بُيوتات المدينة تارة وتخْطُب أُخرى ، إلاّ لأنها كانت تعيش الحبّ في أسمى صورة..
حبٌّ  مبدؤه الله.. 
ومنه ينبثق لما عداه..
متسعٌ ليكون أبعد من أن يحدّه مكانٌ أو يحويه زمان..
فكان على امتداد الإنسان كلّ الإنسان..
[وهل الإيمان إلاّ الحبّ]7

لذا فإن من تتملكه المشاعر والأحاسيس المفعمة بالطُهر وإنْ كانت تجاه أمةٍ متخاذلةٍ ظالمة..
لابُد أن يُدلي بكلتي يديه نحوها لينتشلها من التيه..
فكانت كلماتها كحبالٍ اجتمعت لتكون أقوى،ثم تدلّت فغدت بالقرب..
كانت قريبةً حدّ التماس من الأيدي..
لكنهم أفلتوها..
وتشبث بها عمار،المقداد،سلمان وأبو ذر،{وثلةٌ من الآخرين}8

ولأنها كانت تحيا الحبّ بواقعه لا كما يتزلَّف به المدَّعون.. غرست بذوره في الأمة ، وواصلت السُقيا بإثني عشر هادياً كلٌّ حسب دوره المناط به..
وكأني بها تَنْبِسُ بذات المنطق"ماخرجت إلاّ لطلب الإصلاح في أمة أبي،أُريد أن آمر بالمعروف وأنه عن المنكر".

لأنّ ما يعطي الحبّ قيمة،وبه تكون للإنسانية معنىً أن نُخرجه من بوتقة القوة إلى حيّز الفعل أي من العاطفة إلى السلوك، فإنّ مجرد الإحساس مهما كان نبيلاً لن يُثمر مالم نُصيره منهاج حياة..

إنّنا نُشاهد بالعيان كيف تتّسع الرؤية كلما ارتفع بنا المكان فكيف إذا حلّّق الواحد منّا في الفضاء.
هذا على حدود الباصرة المادية،فكيف إذا عديناه إلى ماهو أبقى وأنقى!
أتّتسع الهوّة أم تضيق ؟
ألن نبتعد عن حدود (الأنا)المتشرنقة داخل ذواتنا؟
ونسير الهويّنا في طريق واسع لاخصوصية فيه لأيّ أحد..
نحن والآخر فيه سواء..
نُبصر عبر منظار عميق" نحن البشر"..

ولأنّ الحقّ دون الصبر يذوي..
تجلّت سورة العصر في آيها{ إلاّ الذين آمنوا وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر}9
فكانت فاطمة..
إيجازٌ شهدته خمسةٌ وسبعون يوماً..
حكايةً بعمر الربيع..

وعندما نسقط ذلك على واقعنا،نرى أننا نمارس النقد بشكلٍ واسع،لكنه كشجرٍ لايُؤتي أُكلّه.. فلِّم!!
_لأننا نمارس النقد داخل غرفٍ مغلقة،فكانت أشبه برسائل ضلّت طريقها،وبدل أن تُعنون بالفضيلة ساوقت الرذيلة فكانت هيّ والغيبة سواء. 
_ثمّة هُوّةٍ واسعة بيننا وبين الآخر ،فالنرجسيّة هي من تحرّكنا..
تتجاذبنا المصالح ليس إلاّ..
_تلاشي وعيّ الأعم الأغلب بالظواهر السلبية التي تحوطنا،ومن لايعي الواقع لن يفكّر في التغيير..
_هل نمتلك نَفَساً للمواصلة! سؤال يفرض نفسه، ففي حال فكّر الواحد منّا في البدء بتغيير ماحوله من ظواهر سلبيّة،فإنه يتراجع في البدايات،وكأن التغيير مجرد ضغطة زر،تماماً كما نحيا اليوم عالماً متسارع الأحداث.
_حسّ المسؤولية معطوبٌ لدينا.
_هاجس الخوف من ردّة فعل الآخر يمثل شبحاًّ يمنعنا من مجرّد التفكير في التغيير.

ختاماً..
أن أصعد بالآخر ومن خلاله سلّم التكامل..
نطويها سويةً لنجتاز عثرات الزمن..
هيّ..
نظرةٌ مثلى..
وهدفٌ أسمى..
نسعى بوساطته لبناء مجتمعٍ ينشُد الكمال وينّشََد له.. 
عبر قلب البوصلة..
إذاً فلنكن في قلّب الحدث..
بفارقٍ وحيد أن تكون خطواتنا عكس التيار..

فهل نمتلك قلوباً تنبض بالحبّ!!

1/التوبه71
2/الخطبة الفدكية،الاحتجاج ج1
3/فاطر،8
4/النساء،1
5/بحار الأنوار،ج14
6/ميزان الحكمة،ج6
7/مستدرك الوسائل،ج12
8/الواقعه40
9/العصر 3

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق