مشيئة خُلْدت.
بقلم: فاطمه العيسى.
من ثنايا الروح شعّْ نور الإطمئنان رضاً وتسليماً..
راوياً حكاية شموخ نفس أبيَّة في عزّها الأبهج..
مستنكرة غصب حقّها المسلوب..
وبيعة قسر لنفسٍ ولَغت غيّاً وعدواناً
(خذ البيعة والا اقطع عنقه)
فهي الأدهى والأمرّ.. تطاولاً على إمام زمانه.
وتجبّراً وكبرياء في وجه الدين الأنصع...
ليأتي الرد صاعقاً إلى الجبروت الأرعن مُعلناً للحق
كلمة (مثلي لايبايع مثله)..
شتّان بين كلمة إمام حق وبين كلمة خليفة باطل فكلتاهما سطّرت مشيئة الهية خُلّدت بها رواية عشق وكأن نسج الخيال يصوّر حاله وهو يتنفس الصعداء مفوّضاً أمره لمولاه ( شاء الله أن يراني قتيلاً)
أويحبّ الله أن يرى وليّه قتيلاً بأرعب مشهد حتى يشاء قتله؟!
حاشا لله أن يحبّ مايؤذي نبيّه في مُصاب فلذة كبده وريحانته ومايؤذي أولياءه المعصومين وشيعتهم الموالين لهم.
ليس شرطاً أن تكون كل مشيئة هي أمر محبوباً لله تعالى، إن الله قد ينهى عن أمر ويشاء أمر آخر، لِحكمةيراها ، فكما نهى نبيه آدم عن أكل الشجرة،وما أمر نبيه إبراهيم بذبح ابنه وقد شاء غير ذلك.
إذاً ماهو معنى المشيئة؟!
ولماذا قال (شاء الله) عِوضاً عن (أراد الله)؟!
المشيئة :هي ابتداء الفعل.
وقيل الإهتمام بالشيء أي الهمّة لأداء الفعل وهل من الممكن أن نقول إن ّ الله همّ بفعل ما؟!
فلا نتصوّر هذا المعنى للمشيئة الإلهية(الهمّة) أنّ لها موقعاً في الذات الإلهية، فلأن هذه الذات هي عين العلم فلاحاجة لها للهمّة التي تعبّر عن الحاجة للتفكير في الشئ والعزيمة على فعله ، لأن لأن التفكير ينبأ عن الإنتقال من حالة الجهل إلى العلم وذات الله عالمة، فالجهل والتفكير والهمّة من صفات عباده، وليس لها محلاًّ في ذاته المقدّسة، فالهمة هي من صفات العبد، فهو قبل الإقدام على أي فعل فهو يفكّر ويقرر ليعزم على الإقدام عليه أم تركه، وهذه هي الهمّة.
فإذا لم يكن للهمّة موقع في الذات المقدسة فكيف إذاً نُسبت هذه المشيئة لله تعالى؟!
إنّ مشيئته تعالى تمثّلت في إرادته لهذه الهمّة من عبده، أي أن هذا العبد لايمكنه أداء أيّ فعل إلا بقوّته تعالى ولوشاء لسلب منه القوة لتكون مانعاً يُعيقه عن تحقق الفعل.
وماهي إرادته؟!
الإرادة هي إيجاد الفعل وتحققه بعد الهمّة بأداءه وربّما يقصد بالإرادة هي المشيئة أيضاً لقرب المعنى بينهما، إذ أن الإرادة تحقق
هذه الهمّة من العبد.
لكي نفهم هذه المظلومية للإمام ومأساته الخالدة فإنّ عقولنا بأمسّ الحاجة أن تربط تلك المجريات والأحداث بالمشيئة الإلهية كي تتبلور عقيدتنا بقيمة أنفس مما هي عليه.
فهناك وثاقة ارتباط متين بين مشيئة العبد ومشيئة المعبود
وإنّ قصد الإمام عليه السلام (شاء الله..) يشير إلى أنّ ظهور ملامح المأساة قد بانت في خطّ الأفق، ألا وهي همّة يزيد "لع"
بقتل الإمام "ع" في حال رفض البيعة له ، وهذه بداية الفعل أي المظلومية، إذاً هي سابقة للإرادة والعلم سابق عليهما أي أن
هذه المشيئة صادرة من العباد بعلم الهي لإختيارهم.
قال الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)
"عَلِم وشاء وأراد وقدّر وقضى وأمضى بعلمه كانت المشيئة وبمشيئته كانت الإرادة
وبإرادته كان التقدير وبتقديره كان القضاء وبقضائه كان الإمضاء والعلم متقدّم على المشيئة والمشيئة ثانية والإرادة ثالثة" " ١"
ولأنّ بها سينال رفيع الدرجات كمّا بشّره جدّه المصطفى
"صلى الله عليه وآله" في رؤياه، وعليها فقد اختار مشيئة الله رضاً وتسليماً، إيثاراً للشهادة وعشقاً لها على حبّ البقاء في دُنيا فانية،تحكمها طواغيت جائرة.
لذلك فقد حزم أمتعة الرحلة الدامية مطالباً حق الأمة
بإصلاحها ( وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي)
فكانت بداية الحكاية للمشيئة الحسينية في بذل الغالي والنفيس ليحقق فقط إرادة الله في ديمومة هذا الدين وحفظه من عبث الطواغيت، ويكسر جبروت الظّالمين ما دام الزمان ، لتبْقَى قِيمه وسمُو مبادئه رصينة لاثمّة ضعف يطالُها، ومادام هناك من يُضمر السوء لهذا الدين، فلا بدّ أن توجد أنفسٌ زكية تُفدى له لبقاء نوره يشمخُ عزّاً ، كما قال تعالى:( ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) "٢"
وماكان لهذا الدين أن يُتَمّ نوره إلا بالدّم الطّاهر وبه أحيا هذا
الدين الإسلامي كما قيل في حقه (الإسلام محمدّي الوجود وحسيني البقاء).
لذلك قد تحركت مشيئة الظاّلم التي قد روتها أحداث الكوفة ومآسيها المؤلمة التي حكت قصة الخذلان للإمام الحسين "عليه السلام" ونقض الميثاق بعد دعوته للنصرة له وماشهدته من انقلاب الموازين رأساً على عقب، فصارت الكوفة طوعاً لرغبة الطاغية بعد أن كانت تسير لصالح الإمام "عليه السلام"، فتساقط الكثير في ساعة الإختبار رغباً ورهباً، فكانت ساحة امتحان صعب، تمحّص فيها ثّلة مؤمنة راسخة القدم في قلّتها، و بهذا تكاملت دواعي المشيئة.
فقد تتباعت الأحداث في سيرها وفقاً لإختيار كل فرد شارك في هذا الحدث دون أن يكون مسيّراً. فهو بإرادته يختار صفّه الذي يرغب بالإنضمام فيه، إمّا ناصراً لإمام زمانه أو عدوّاً ناقضاً لعهده.
إنّ تسارع هذه الأحداث لمأساة الإمام الحسين "عليه السلام" لم تكن حديثة عهد ووليدة أيام بل كانت نتاج مخاضٌ انقلاب الأعقاب ومؤامرة السقيفة الخائنة، التي خلّفت وصيّة نبيّها وراء ظهرها، لِتطعن إمام زمانها بسهام الضغينة.
وها هي قد بدأت ساعة ولادة الحقد الدّفين من جديد تقترب رويداً رويداً لترفع ذلك الرأس الشريف على القنا وبه تتم تلك المشيئة بقضاء الهي، لأن القضاء هو اتمام الحدث الذي بدأت به بوادر المشيئة وبه تكتمل حكايتها وغايتها في تخليد ذلك النور الساطع ليعلَم كل ذي لبّ إنّ عظمة هذا الدين من عظمة هذا القربان الذبيح "عليه السلام"
ولننتبه أنّ هذه المشيئة الإلهية لم تُجرى على يد أعداءه لأنه أمرٌ مكتوب وبناء عليه أن يُقتل ظمآنا غريباً بناء على ذلك المكتوب، فهذا الإعتقاد يلزمنا الوقوع في عقيدة الجبر التي تصوّر هذا الإنسان كمجرد آلة متحركة تنفذ المكتوب لها دون أن يكون لها القدرة على الإختيار، فقد احتج الظالمين وبرروا أفعالهم المُشينة بأنها من المكتوب الذي قد كُتب عليهم، فهذا الإعتقاد لاينبأ عن الإيمان السليم ، والصحيح هو أن للإنسان الحرية في اختياره، فمن الإختيار حبّ الإمام والأنصار للشهادة والسعي في الحصول عليها ، ومن الإختيار حب المناصب من سَفَلَة الأهواء، فكلا الفريقين اختار غايته ليس لأنه مكتوباً، بل المكتوب يؤكد علم الله تعالى بمجريات الأحداث التي تسير تبعاً لإختيار البشر وبإمكانهم أن يغيروا مجراها لو أرادوا، كماقال تعالى :( إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) "٣"وهذه الآية تنفي مبدأ الجبر و تكشف مشيئة الله في إختيار العباد لمصيرهم وأفعالهم، والقضاء تابع لإختيارهم وهذ قانون الهي جاري على جميع البشر وبإيديهم تبديل المصير إمّا للأحسن وإمّا للأسوء.
فمشيئته تعالى في ذلك الأمر أنه لم يمنعهم من فِعل ما همّوا به من أمر عظيم كما منع النار من احراق نبيّه ابراهيم عليه السلام، فلكل أمر حكمته الخاصة به، فلو منعهم لما تمحّصت دفائن النفوس المريضة التي هي من الغايات الإلهية التي تجري عبر امتحان البشر وذلك لايكون إلاّ بحريةالإختيار.
ولأنّ الغاية من مشيئة العدو في قتل الإمام الحسين "ع" أنه يريد اطفاء نور الدِّين مدى الزمان، فكانت الغاية الإلهية في هذه المشيئة هي ( أن يتم نوره ولو كره الكافرون) ليكون مناراً مُشعّا مادام الزمان باقياً يجذب قلوب السالكين إليه.
وبهذه المشيئة ومن قلب كربلاء وثّق الإمام الحسين " عليه السلام" أروع بطولات العشق الإلهي في العبودية لله تعالى، وفي كل موقف سجّل عنوان الإرادة الإلهية (وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) "٤"
أي أنّ الله تعالى أراد من عبده تحقيق سِمةالعبودية في البلاء كانت أم في الرخاء، وجعلها عنواناً للطاعة المطلقة التي لايشوبها روائح الأنا الطاغية.
وقد تجلّت هذه العبودية المطلقة على أرض كربلاء التي كانت فعلاً أرض مُحِّصت فيها النفوس تمحيصاً، وتجلّت فيها معادنها الخفيّة وجواهرها القيّمة بالكرب والبلاء، بكل معانيها ومصاديقها المتعدّدة ذائبة في ذات المعبود مُعلنةً الحرب على النفس قبل حرب العدو كما قال تعالى ( فاقتلوا أنفسكم)"٥"، فوثقت أروع القيم الخالدة التي سطّرت حكاية العشق الإلهي، فكانت تارةً تضحيةً بالمُهج تسليماً ينطق عن حبّ ربّها الذي يعلو فوق كل حبّ ، وتارةً بروح الإطمئنان في مواجهة التحديات التي تتحدث عن روح لا ينقطع رِباطُها بالله طرفة عين أبدا، والإيثار الذي يروي قوة جُند الله في وأدها حبّ النفس ، وصلابة الصبر والتحمّل بين فقد الأحبّة
وغدر الخَوَنة ، وأجمل مشهد
لذة المناجاة التي تعبًر عن استشعار العجز والحاجة إلى المدد المتواصل لِيخلّد تللك المشيئة بإخلاص المبادئ القيّمة بتقديم نفسه قّرباناً طاهراً بعبودية محضة في خُلوصها ويرحل
بختام مسك وهو (حسن القضاء من حُسن الإختيار).
...........................................
"١" كتاب التوحيد لعلاء الحسون ف١٢ إرادته تعالى ومشيئته
"٢"سورة التوبة ٣٢
"٣"سورة الرعد ١١
"٤"سورة الذاريات ٥٦
"٥" سورة البقرة ٥٤