بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 25 ديسمبر 2019

بين عين العقل وعين العاطفة

بين عين العقل وعين العاطفة 
بقلم: مريم فريد.

العقل هو المنظومة التي تجعل الانسان يميز بين الصواب والخطأ ،وهو المتحكم الواعي في كل تصرفاته، و السائس لغرائزه وشهواته ، فأي عمل أو تصرف يقدم عليه لابد له أن يمر بالعقل فيقوم بمراجعته وتقييمه والتأكد من تقبل المجتمع له من خلال المعلومات والخبرات المختزنة في العقل اللاواعي ليوافق عليها أو يرفضها ، وقد تبدو هذه العملية معقدة جدًا وتحتاج وقتا طويلا لكنها قد لا تستغرق  أغلب الأحيان ثوانٍ معدودة.

العقل قد يراد به العقل النظري ، وهي قوة الإدراك الفكري ، وقد يراد به العقل العملي وهو قوة العقل العمّال المحرّك المسيطر على قوة التحريك في النفس من قوى الغضب والشهوة ، وقد سئل الكاظم عليه السلام عن العقل فقال عليه السلام :  « ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان » ، وهو ينطبق على العقل العملي ، لأنه مصنع الإرادة في النفس، ولا يكفي لهداية وكمال وصلاح الإنسان أن يدرك الحق والحقيقة الصادقة بعقله النظري دون أن يصدق و يذعن ويسلّم ، فيقيم عزمه على ذلك ، وبالتالي تنطلق قواه العمّالة على مقتضى ذلك.

الدين بجميع شرائعه السماوية حضّ على إعمال العقل في كل نواحي الحياة ، وجعله هو المائز للإنسان عن جميع المخلوقات على وجه البسيطة ، به استحق أن يكون خليفة الله في أرضه ، واكتسب به حق التمتع بكل مافي الكون ، بل سخر له الأرض بما عليها . لكن هناك في النفس الإنسانية جزء لا يتجزأ من منظومة الإنسان ألا وهي العاطفة ، وهي حالة ذهنية كثيفة تظهر بشكل آلي في الجهاز العصبي وليس من خلال بذل جهد مُدرَك، وتستدعي إما حالة نفسية إيجابية أو سلبية ،وهي في صراع شبه دائم مع العقل تحاول أن تغلبه فتسيطر عليه وتتحكم في سلوكه ، فقد تظهر على شكل مشاعر مجردة منحازة الى طرف دون اخر، او فعل يرفضه العقل بحكم الدين او الأعراف التي تتحكم به ، ولعل هذا الصراع من أكثر الصراعات التي يمر بها الإنسان وأكثرها شراسة.

وهذا لايعني أن نلغي العاطفة تماما ونتجاهلها ، فالعاطفة هي التي تهذب في كثير من الأحيان العقل وتضطره إلى إظهار المودة والرحمة في تعامل البشر مع بعضهم البعض ، فبالعقل وحده يكون الإنسان كالآلة الصماء ينفذ الأوامر  الصادرة اليه بدون أية مشاعر او أحاسيس، فنجد الرجل الذي قلما يبتسم او يتحدث خارج إطار منزله أباً حنوناً عطوفًا رقيق القلب مع ابنائه. والعاطفة موجودة في الخلقة كما العقل والتفكر والتدبير ،وهي الركن الثاني في بناء الشخصية ،فإذا لم يبن الانسان على اساس عقلي وعاطفي معاً تراه سرعان ما يضعف.

ومع أنها تمثل جانب الضعف والرقة لكنها قد تجعل من بعض من تسيطر عليه قائداً ينقاد له كل من يقترب منه. فالأم بعاطفتها الجياشة ورقتها الحانية تمثل العاطفة بأبهى صورها ومعانيها ، ولولا عاطفة الأم لما تحملت وهن الحمل ومشقة الولادة وعناء التربية ، بل انها تستلذ تلك المعاناة وذلك الوهن والشقاء فتُكرر التجربة مراراً دون كلل أو ملل ، وبالعاطفة تتحمل زلاتهم وإخفاقاتهم المتتالية وبها تزرع فيهم الخُلق السوي والمنهج السليم ، وبها تصبر على ما لا يطيقه اعتى الرجال وأشدهم قوة . 

فالله عز وجل هو المدبر الحكيم لهذا الخلق والأعلم بمكنونات خلقه لهذا طغت العاطفة على العقل في تكوين المرأة وفطرتها ، فكانت تعاليم الشريعة السمحاء متناسبة مع خلقتها ، ففي الشهادة مثلا لا تُقبل شهادة امرأة واحدة لأن عاطفتها قد تسيطر عليها فتتأثر بنظرتها العاطفية ، لترى الأحداث بصورة مختلفة عن التي يراها العقل فتأتي شهادة الأخرى لتذكرها بإحكام العقل لترى الواقع كما هو .
 
لكننا نجد الأمر مختلفاً في قضية الإمام الحسين عليه السلام، ، نرى عين العاطفة غلبت عين العقل ، ولايعني ذلك انها ألغته تمامًا بل طوعته لصالح العاطفة ، وهنا يكمن الاختلاف بل التميز في قضيته سلام الله عليه فبالعاطفة بقت قضيته حية  متوهجة بل أحيت النفوس والأرواح وأنارت العقول ، فمن لايعرف الحسين عليه السلام يستغرب كيف تبكي الأمم كل هذا الزمن إنسانا مر على قتله ما يزيد عن ألف وأربعمائة سنة وكأنما قُتل بالأمس ، وكيف تبقى تلك الحرارة او الحرقة في النفوس متأججة لهذا اليوم بل لآخر الزمان ، لكنه اذا اقترب واستمع شيئا قليلا من جوانب تلك المأساة اندفع من دون ان يشعر بالصراخ أحيانا كثيرة . 
وإذا اعمل العقل وجد أن هذه القضية العاطفية قد أحيت النفوس وأزاحت الظلمة عن العقول بل هي من قادت المسيرة ضد الظلم والطغيان بل هي المحرك الرئيسي لكل وقفة ضده ، بها تحررت النفس من دائرة الأنا ، وسمت الروح فانقاد العقل إلى أن الحسين عليه السلام هو طريق الحق ، طريق الإنسان نحو التكامل ، إنّ قضية الإمام الحسين عليه السلام قضية مفتوحة لم يُحاكم القتلة فيها إلى أن يظهر صاحب الدم ليقتص منهم ، لأنهم لايزالون بيننا بصور آدمية مختلفة لكنها نفس الدماء ونفس الحقد يظهر بصور شتى ووجوه أشد وحشية ، فالأمة التي بايعت وشايعت على قتل الإمام الحسين عليه السلام مازلت متابعة على قتله باللسان واليد والقلب. فهي وإن لم تشارك في المعركة ، شاركت في محاولات لطمس تلك الحقيقة المتمثلة في يوم عاشوراء ، بإعطاء المسوغات الواهية للقتلة او لإلقاء اللوم عليه سلام الله عليه و وإسقاط الجريمة على المرتزقة متناسين أن الطواغيت هم المحركين والمدافعين الحقيقين وراء تلك الجريمة التي لم ولن تتكرر ، أو بقمع كل من يقوم بإحياء هذه القضية التي هي من أفضل شعائر الإسلام ، وتقييد نشر تلك القضية التي بها تهتدي البشرية.

عاشوراء معركة إذا قيست بالعقل المجرد معركة صغيرة قادتها ثلة مؤمنة في مقابل جيش جرار ، هدفها الإصلاح وقائدها حفيد نبي الأمة التي تظاهرت ضده وقتلته وأهل بيته وصحبه ، لم تكتفي بالقتال العادي بين فريقين بعد ان انتصرت ظاهريا باستخدام أبشع طرق القتل من إعطاش الجيش المقابل او الثلة بعبارة اصح ..ثم القتل الذي لم يسلم منه حتى المرأة والطفل الرضيع ثم قطعت الرؤوس وتقاسمتها أيدي الظلم  و اقتادت من بقي أسارى من بلد إلى بلدٍ إظهارا لقوة سيدها وتحذيرا لمن تسول له نفسه القيام.

خلال المعركة لم يكن ثمة اعجاز او استغلال للولاية التكوينية لثلاثة من المعصومين ، لكن الأثر التكويني لهذه القضية لازال باقيا وسيبقى مابقي الدهر ، فكل ما يتعلق بالإمام الحسين عليه السلام يبقى خالدًا ، واقصد بذلك العلقة الواعية المدركة لمظلوميته عليه السلام ، تملكتها بداية العاطفة تجاه قضيته ، عاطفة متأججة لا تخمد ربما تختبئ احيانا بسبب الانشغال بأمور الحياة لكنها كالجمر تحت الرماد ، ما أن تهب ريح حتى ازدادت تأججًا واشتعالا ، وارتقت بمن يحملها فغذت روحه بأرقى معاني الحب والتضحية والفداء ، ليدرك العقل أن أحياء قضية  الإمام الحسين عليه السلام إنما إحياء لأمر الله وكلمته  وبذلك يتحقق المطلب الحقيقي لخروجه عليه السلام {إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد صلى الله عليه واله }.
 
والعاطفة ضمنت استمرار هذا الإصلاح ، بكل صورها وتجلياتها على أرض الواقع ، فالإنسان بطبيعته يبتعد عن كل مايكدر صفو عيشه ويجلب له الأسى والحزن ، لكن ثمة حزن تبحث عنه الثلة التي عشقت الحسين عليه السلام وتستلذ به ، تشتاق مواسمه (محرم وصفر ) وتستعد لها ، ليشارك كل حسب قدراته ببذل الغالي والنفيس لاحياء تلك الأيام بالحزن والدموع يأنسون بأصوات مراثي العزاء و يرددونها ويتسابقون في حفظها عن ظهر قلب ، يطغى اللون الأسود على كل شئ الملابس الجدران بل حتى الهواء فلا مكان للفرح وألوانه ، فالحزن هو الحالة العامة للجميع بل استثناء.

بهلال محرم تُرفع راية الثأر الحمراء لتستبدل بالراية السوداء ، ونعود لنستمع القصة من جديد في ليالٍ عشر ، منذ خرج الإمام الحسين عليه السلام من مدينة جده إلى مكة المكرمة وصولاً الى أرض كرب وبلاء الى يوم العاشر ومع أننا سمعنا الحادثة منذ كنا أجنة في بطون امهاتنا وكبرنا عليها حتى حفظنا أغلب تفاصيلها ، لكن في يوم العاشر نعيش الحدث وكأننا نسمع به لأول مرة ونفجع بالنهاية في كل مرة ، لعلها الفطرة التي خلقنا بها أم تلك الطينة التي عجنت بها طينتنا تأمل أن تتغير النهاية ، لكن لعل  السر في خــلود قضية الإمام الحسين عليه السلام هو تلك القطرة التي لا تكاد تجتمع في العين لصغرها ،الى الدماء الحمراء التي أقرحت الجفون {ولأبكين عليك بدل الدموع دمًا }.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق