بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
عندما يعم الظلم والفساد أرجاء المعمورة ، وتمتلئ الأرض ظلما وجورا وفسادا وانحطاطا أخلاقيا ، فإن الحاجة تزداد لدليل واضح ، ويدٍ حنون تأخذ بيد التائه الظمآن ، وتنتشله من ركام الخطايا إلى قمم الصفاء والنقاء والروحانية والقيم السامية.
هكذا كان الحال في عصر مولانا السجاد ( عليه السلام ) ، فقد كان الظلم والجور والفساد والانحطاط الأخلاقي قائما على قدم وساق ، فبعد واقعة كربلاء هدمت الكعبة ، واستبيحت المدينة ثلاثة أيام، وانتشرت فرق الملحدين والمنحرفين فكريا وعقائديا كالجبرية ، والمرجئة ، والمجسمة ، وانتشرت دور الخمور والغناء. فكان لابد للإمام السجاد ( عليه السلام ) أن يمارس دوره الرسالي ويحافظ على رسالة جده المصطفى ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) ، ولكن الأوضاع السياسية التي عاشها الإمام ( عليه السلام ) ، والفترة التي عاصرها كانت فترة تضييق وتشديد من قبل السلطة الأموية الحاكمة آنذاك
فما الذي كان على الإمام أن يفعله؟!
هل يعتزل الناس والحياة هاربا من ذنوب البشر وينزوي تاركا الدنيا لأهلها ، ويتفرغ هو للعبادة والمناجاة ؟! أم يقوم بدوره الرسالي المنوط به بالوسائل الممكنة ؟
لم يترك الإمام ( عليه السلام ) أمة جده تنغمس في مستنقع التيه والضلال ، بل كان يدًا رحيمة تستنقذ البشرية إلى سبيل الهدى والرشاد، وقد مارس ( عليه السلام ) دوره الرسالي والإصلاحي بصور مختلفة بحسب ما يقتضيه الموقف ، وكان من أبرز تلك الصور الجانب العبادي والروحي في شخصيته ( عليه السلام ) ، فقد اشتهر سلام الله عليه بالعبادة حتى لقب بـــــ:
زين العابدين لكثرة عبادته .
السجاد لكثرة سجوده.
صاحب الثفنات لوجود آثار ناتئة في جبهته بسبب كثرة سجوده ، وكان يقطعها في كل عام مرتين ، في كل مرة خمس ثفنات ، ويجمعها ، وقد دفنت معه بعد وفاته سلام الله عليه .
تجسدت العبادة في شخصه ( عليه السلام ) فكأنما العبادة تمشي على قدمين ، فقد ذاب في العبادة وذابت فيه فكأنه الصلاة في مصلاها والدعاء متمثلا في داعيه.
وحكاياته في العبادة أكثر من أن تحصى ، وكان من عبادته أنه كان دائم الصيام في النهار ، ودائم القيام في الليل ، حتى أن الناس سألوا مولاة له بعد موته عن عبادته وطاعته فقالت : أأطنب أم أختصر؟ فقالوا لها : اختصري . فقالت : ما أتيته بطعام نهارا قط ، ولا فرشت له فراشا بليل قط.
كان يعبد الله ليلا ونهارا ويستقل ذلك من نفسه ، فقد روي أن ابنه الإمام الباقر ( عليه السلام ) دخل على أبيه السجاد ( عليه السلام ) فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد ، فرآه وقد اصفر لونه من السهر ، ورمضت عيناه من البكاء ، ودبرت جبهته ، وانخرم أنفه من السجود ، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة ، فلم يملك الباقر نفسه من البكاء رحمة له ، فإذا هو يفكر . يقول الإمام الباقر ( عليه السلام ) : فالتفت إلي بعد هنيئة من دخولي فقال : يا بني أعطني بعض تلك الصحائف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فأعطيته. فقرأ فيها شيئا يسيرا ثم تركها من يده وقال : من يقوى على عبادة علي؟!
تلك نماذج بسيطة ولمحة سريعة عن عبادته ( عليه السلام ) فقد كان سلام الله عليه يجسد العبادة الروحانية والقيم العليا في شخصيته . وهكذا فهو يمثل الحديث الذي يقول : " كونوا دعاة لنا بغير أفواهكم " فقد كان مربيا للأمة عن طريق كونه قدوة.
أضف إلى ذلك استخدامه الدعاء كوسيلة للإرشاد . فقد استطاع الإمام بما أوتي من بلاغة فريدة ، وقدرة فائقة على التعبير العربي أن ينشر جوا روحانيا في المجتمع الإسلامي ويعالج حالة الجفاف الروحي ، والانحراف الفكري والعقدي لدى الناس. فلو نظرنا نظرة فاحصة للتاريخ لوجدنا أنا الإمام ( عليه السلام ) عالج أنواع الفساد المختلفة عن طريق الدعاء .
فها هو يقوم بدوره الرسالي ويرد على المجسمة عن طريق الدعاء . فعندما استفحل أمرهم وتجاسروا على الإعلان عن أفكارهم وبكل وقاحة وجرأة في المجالس العامة ، بل في مسجد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رد عليهم بالدعاء . فقد ورد أن الإمام ( عليه السلام ) كان في مسجد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذ سمع قوما يشبهون الله بخلقه ، ففزع لذلك وارتاع له ونهض حتى أتى القبر الشريف فوقف عنده ورفع صوته مناجيا ربه قائلا : " إلهي بدت قدرتك ولم تبدُ هيئة جلالك ـ يعني لم تظهر على أساس الهيئة والشّكل ـ فجهلوك وقدّروك بالتّقدير على غير ما أنت به، شبّهوك، وأنا بريء يا إلهي من الّذين بالتّشبيه طلبوك، ليس كمثلك شيء إلهي ولم يدركوك، وظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك ـ لو أنهم أرادوا الدّليل عليك لرأوها بالنّعم ـ لو عرفوك، وفي خلقك يا إلهي مندوحة عن أن ينالوك، بل ساووك بخلقك، فمن ثمّ لم يعرفوك، واتخذوا بعض آياتك رباً، فبذلك وصفوك، فتعاليت يا إلهي عمّا به المشبّهون نعتوك.
بل إن أدعيته ( عليه السلام منهاج حياة ، ودستور معيشة تعلمك أبجديات الحياة . وهي أدعية تستوعب جميع الحاجات سواء ما يرتبط بالدنيا أو الأخرة ، فهي أدعية شاملة بدءا من معرفة ربك " إلهي بك عرفتك وأنت دللتني عليك ، ودعوتني إليك ، ولولا أنت – يا رب – لم أدرِ ما أنت "
مرورا بعلاقتك بنفسك وعائلتك ومجتمعك ، يأخذ بيدك ويكون رفيقك ومرشدك في منحنيات حياتك . يأخذ بيدك مثلما يأخذ الوالد الحنون بيد ولده ليعلمه الطريق ويمنعه من السقوط . انظر كيف يقطع بك الزمان وينقلك من الحاضر للمستقبل ويتجاوز بك حاجز الحياة فترى نفسك وقد فارقت الدنيا ليزيد في بصيرتك ووعيك وتقل خسارتك " وارحمني صريعا على الفراش تقلبني أيدي أحبتي ...الخ".
ولم يقتصر أثره سلام الله عليه على من عايشه في زمانه بل لازات يديه الرحيمتين تمتد إلينا ، وتشد على أيدينا . حقا إن أدعيته جامعة إسلامية كبرى تثير فيك الكوامن الخيرة وكأنها تخاطبك شخصيا وتتحدث عن مشكلتك وعن خلجات روحك ، وكم يقف القلم عاجزا عن وصفها ، ووصف ما تتركه من آثار روحية على القارئ والسامع .
اللهم وفقنا للاقتداء بهم والسير على خطاهم ، ووفقنا لننهل من معين عطائهم ونرفل في أحضان رأفتهم وحنانهم .
.......................
بقلم الاخت
ندى الخلف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق