عودة الركب الحسيني في الأربعين
بين الحقيقة والتزييف
هي وصمةُ عارٍ طُبعت على جبين التاريخ،ألوانها الدماء،لغتها السيوف،منطقها السبي ،لاشيء يُنبأ بالأمان،بعدما داست خيل العدى كل الأمان.
رُبما كانت تلك الصفعة كفيلة بإيقاظِ سُكارى الفكر ،لكنها رُغم ذاك حُرفت حوادثها ونالت منها أقلام تُجار الدنيا مانالت لقاء ثمنٍ بخسْ،دراهم معدودات.
ورُغم كل تلك الأموال الطائلة التي أُنفقت لطمسها وتزوير حقائقها،كانت كربلاء ولم تزل حديثاً يُشجي القارئ البصير ويفتح نافذةَ اليقظةِ لقلوبٍ كانت أشبه بالميته.
هِي أيام قلائل لكنها تركت أثراً نيراً في كل وقفه،لتنطق زينب على لسان السبط الشهيد،لم تكن زيارة الأربعين خِتامُ المسير،فلم تكتمل الصورة بعد،ثمة مشهد آخر بإنتظار عقيلةِ الطالبيين في طرقاتٍ طالما خلدت خُطى آخر النبوات.
لكننا سنحط هاهُنا هُنيئة (رجوع السبايا إلى كربلاء يوم الأربعين بين الحقيقة والتزييف).
أن يكون تزييف الحقائق من العدو رُبما يُقبل بعض الشي فهو خطاءٌ من رأسه لأخمص قدميه وأهدافه واضحة للعيان،لكن المؤلم أن يكون التحريف من القريب بل من المُحب الموالي،والهدف إستنزاف الدمعه،استدرار العاطفه لاغير.
واقعة كربلاء رغم أن يد الأعادي طالت بعض أحداثها لكن يد المحب لعبت دوراً لايُستهان به فأضافت بعض المشاهد بصورةٍ مأساويه محلقةً في خيالٍ مختلق،وما تزويج شبل الحسن وسط سيوف ورماح إلاّ إحدى صورها لتُغَيَّب الصورة الواقعية عن الساحه ،سبطُ محمدٍ تحوطه أشباه بشر مضيقةً السبل حدّ الإختناق،ليُعلنها صلاةَ خوفٍ بين حماةٍ فدت سيدها فأبت إلاّ أن تكون هدفاً لراميه،ظاهرها صلاة خوف وحقيقتها إنقطاعٌ لانظير لحدوده.
وكذا الحال بالنسبة لوقفتنا تلك فلم تسلم هي الأخرى من التزييف لتتعدد الأقاويل بين مؤيد لزيارة الركب الحسيني يوم الأربعين أرض الشهادة والإباء وبين مُعارضٍ له،ولكلٍ أدلته المقويه.
وقبل الخوض في أدلة كل فريق لابد من تثبيت بعض النقاط حتى لايتشتت القارئ العزيز:
*نحن لانتحدث عن الأربعين،كزيارة مؤكدة الإستحاب،فهي فوق الشبهات،وبعيدة عن آراء المتقولين
*زيارة جابر بن عبدالله الأنصاري يوم الأربعين لسبط رسول الله( ص) ثابتةٌ لانقاش فيها.
*زيارة الركب الحسيني أرض كربلاء أثناء العودة لمدينة رسول الله( ص)ثابتٌ أيضاً.
إذاً أين موضع النقاش (متى كانت زيارة الركب لكربلاء)??
رُبما سنناقش أمراً بات مُشتهراً بين الناس حدّ التسليم،لكن سبر أغوار التاريخ وتتبع أحادثه يُوقف القارئ عبر محطاته ،متسائلاً كيف تجتمع تلك الأمور رُغم استحالتها ظاهراً،ولدينا في المسألة رأيان:
الأول: يُعارض بشدة مجيئ أهل البيت عليهم السلام يوم الأربعين ويستدل بعدة أمور منها:
أ/ أن عطية العوفي -وهو مصدر الرواية التي تحكي زيارة جابر يوم الأربعين-لم ينقل شيئاً عن لقاء جابر بالقافله رغم كونه حدثاً هاماً في فرض حصوله،ومع ذكره لتفاصيل صغيرة تضمنتها زيارة جابر (إغتسل-ألقى على نفسه الطيب-خطا خطوات-خاطب الإمام الحسين بقوله: يا حسين حبيبٌ لا يجيب حبيبه)،كما أن المستفاد من الروايات أن الزيارة لم تكن إلا ساعات عديدة.
أما رواية اللقاء ففيها ورود عدة من بني هاشم ورجال من آل الرسول إلى كربلاء ولم نجد هناك اسم عطيه ولو كان حاضراً لروى اللقاء مع هؤلاء الجماعة،فالنتيجة أنهما زيارتان.
ب/أن مجموعة من العلماء والمؤرخين أفادوا أن وقت خروج قافلة الحسين من الشام كان يوم الأربعين،قال الشيخ المفيد: وفي العشرين منه كان رجوع حرم سيدنا ومولانا أبي عبدالله عليه السلام من الشام إلى مدينة الرسول.
ج/ إختلفت الأقوال في مدة بقائهم في الشام بين عشرون يوماً على أقل التقادير والشهر والخمسة والأربعون يوماً.
د/ المسير من الشام إلى كربلاء يستغرق ثلاثة وعشرون يوماً على أقل التقادير إذا سارت القافلة نهاراً فقط،وإحد عشر يوماً إذا سارت ليلاً ونهاراً.
هـ/القافله لم تسر من الكوفة إلى الشام مباشرة بل إن عبيدالله بن زياد بعث رسالة إلى يزيد يسأله عما يصنعه مع القافله وهذه الرسالة تحتاج لعدة أيام ذهاباً وإياباً.
ز/ أن سير أهل البيت من الكوفة إلى الشام من طريق تكريت والموصل ونصيبين وحلب المعبر عنه بالطريق السلطاني الذي كان معموراً وماراً بكثير من القرى والمدن المعمورة وهناك العديد من الشواهد تُؤيد ذلك منها بروز الكرامات الباهره من الرأس الشريف في دير راهب قنسرين،وقنسرين يقع بمنزل من حلب وخرل سنة 351 حين إغارة الروم.
و/ لايقبل ذو عقل سليم أن يأتي الإمام السجاد عليه السلام ويكون ذلك أول زيارته لقبر أبيه في الظاهر ولم يُنقل عنه كلام أو زيارة ،وتُنقل الزيارة التي تعمل بها الشيعة عن جابر بن عبدالله الأنصاري.
هـ/ إن تصريح كثير من العلماء بكون جابر أول زائر للحسين عليه السلام يثبت تقدم زيارته على زيارة جماعه من بني هاشم والا فما كان هناك وجه في تلبسه بهذا العنوان دون غيره.
ي/ أن أحداً من أجلاء فن الحديث والمعتمدين من أهل السير والتاريخ لم يذكروا ذلك في كتبهم مع أنه في غاية الأهمية وجدير بالذكر،بل المستفاد من سياق كلامهم إنكارهم له.
إذاً نستنتج مما سبق أن الركب الحسيني وصل كربلاء شهر ربيعٍ الأول إما في الأول/الثاني منه أو في منتصفه.
ولكن كيف يُجاب على الروايات التي تُشير إلى لقاء جابر بالقافله؟
يُحتمل أن جابر قد خرج من الحجاز قاصداً زيارة الإمام ووصل إلى كربلاء يوم العشرين من صفر وبذلك حظي بشرف أولِ زائرٍ للحسين عليه السلام ،ثم أنه ربما زار الإمام الحسين مرة ثانيه خصوصاً أنه وردت رواية مفادها أن جابراً كان برفقة عطية العوفي ثم قال له: إذهب بنا إلى بيوت كوفان،فيمكن أن يكون جابر قد ذهب بعد زيارته الحسين عليه السلام إلى الكوفة ثم رجع بعد ذلك قبل ذهابه إلى الحجاز لتجديد الزياره،وعندها إلتقى بقافلة الحسين عليه السلام.
الثاني: يؤيد زيارة الركب الحسيني كربلاء يوم الأربعين،(يقول أبو ريحان البيروني:العشرون من صفر رُدّ رأس الحسين إلى جثته حتى دُفن مع جثته،وفيه زيارة الأربعين ،وهم حرمه بعد انصرافهم من الشام)ويستدل أصحاب هذا الرأي بعدة أمور منها:
أ/أن الأسرى من آل محمدٍ عليهم السلام قد حُبسوا لمدة يومين فقط ،قام خلالها الحمام الزاجل بحمل جواب الرسالة من يزيد إلى ابن زياد والتي أمره فيها بإرسال الأسرى إلى الشام.
ب/أنهم تحركوا نحو الشام في يوم الخامس عشر أو العشرين من المحرم.
ج/ أنهم وصلوا الشام في الأول من صفر.
د/ أن القافلة في مسيرها من الكوفة إلى الشام سلكت خطاً مستقيماً يمر بمنطقة صحرواية قاحلة قاسية وحارة تسمى باسم بادية الشام ،حيث لايوجد فيها أيّ عمران،ومدة السير في هذا الطريق تستغرق أسبوعاً.
ر/ لايوجد دليل معتبر على لبثهم في الشام شهراً،بل التواريخ المعتبرة تصرح بكونه أياماً من ثمانية إلى عشرة.
و/ لقد أتى خبر موت معاوية إلى الكوفة بعد مضي أسبوع من موته.
هـ/ لقد كان موت معاوية في 15 من رجب سنة 60،وخروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة في 28 من شهر رجب ،وتحقق في هذا الفاصل الزماني الذي هو عبارة عن 13يوماً وصول القاصد وعدم بيعته عليه السلام مع أن الفاصلة بين الشام والحجاز أكثر منه إلى العراق.
ز/ خرج الإمام الحسين عليه السلام من مكة في الثامن من ذي الحجة والفاصل بينها وبين الكوفة مايقارب 380 فرسخاً والإمام ماكان يسرع في السير ووصل الى كربلاء في الثاني من المحرم ،فتحصل أن مسيرته تمكنت أن تقطع هذه المسافة الطويلة خلال 24يوماً .
ح/في مسألة نجاة المختار من الحبس ،ذهب عميرة حاملاً رسالة عبدالله بن عمر-زوج اخت المختار-إلى يزيد،وأخذ بكتاب استخلاصه منه،وتوجه نحو الكوفة وسار الطريق في أحد عشر يوماً إلى أن وصل الكوفة.
ي/ ذكر الطبري أن بسر بن أرطأة أمهل أبا بكر أن يذهب من الكوفة نحو الشام ويرجع خلال أسبوع،فصار ذهابه إلى معاوية وإيابه إلى بسر في سبعة أيام،فيعلم من ذلك أنه ذهب من الكوفة إلى الشام في ثلاثة أيام ونصف وكذا حال الرجوع.
لكن معظم الأدلة السابقه وردت عليها إشكالات وردود أعرضنا عن ذكرها بُغية الاختصار ،فمن أراد فليراجعها في المصادر.
وبين مؤيدٍ ومعارض،تبقى المسألة شائكة،لكننا نستقرب كون زيارة الركب الحسيني أرض كربلاء بعد العشرين من صفر بناءً على ماذُكر سابقاً من المدة التي أمضوها في شام الذل،وإستئذان إبن مرجانة من يزيد،ولحاظ حالة المسيرة في الذهاب والإياب،هذا حسب الظاهر وتبقى كرامات الآل ومعاجزهم فوق تصور عقول بني البشر فرُبما طُويت لهم الأرض بمشيئة رب السماء،أو كما تم دفن الجسد الطاهر بطريقٍ إعجازي رُبما رُدّ الرأس للجسد بذات الطريق.
مصادر البحث:
الملحمة الحسينيه/مرتضى مطهري.
مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة/ج6/محمد أمين الأميني.
مواقع نت: حوزة الهدى للدراسات الإسلامية.
مواقع نت: العتبة الحسينية المقدسة.
مواقع نت: شبكة المعارف الإسلامية.
...............
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق