*بين شدّةٍ وفرج*
مريم فريد
يعيش المؤمن في هذه الدنيا بين عسر ويسر وشدّة وفرج ، وحزن وفرح ، تضيق به الحال حتى تصل التراقي فإذا بلحظة الفرج تلوح من البعيد *(وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)*
فعندما يحكم الباطل وتُسيطر جبهته على مقادير الأمور ، حتى يظن الجميع أنّه لم يعد للخير مكان ، ولا لأصحابه قدرة ، تدحض القدرة الإلهية الباطل وتدحر أعوانه، وكأنّه لم يكن،فينتصر الحق ويعيش أصحابه شعور الفرج بعد الشدة.
كثيرة هي القصص على أرض الواقع ، حتى أنّنا عندما نُطالع بعض تفاصيلها نظنّها ضربًا من خيال ، واليوم نعيش ذكرى رحيل بطلٍ إحدى تلك القصص ، شيبة الحمد والذي يعرف بعبد المطلب ، الذي بدأت حكايا ابتلاآته حتى قبل أن يولد حِين فقد أباه هاشم (عمرو العلا ) فأبصر الدنيا يتيماً.
أسمته أمّه شيبة الحمد بسبب تلك الخصلة البيضاء التي كانت تشعّ في شعره مُنذ ولادته فكأنّما ولد هو والوقار معاً ، عاش سنين طفولته الأولى في كنف أخواله بيثرب ، و ما إن أصبح صبيًا حتى جاء عمّه المطلب ليعيده إلى أحضان مدينة الأجداد مكة ، دخل به مكة مُردفًا إياه على بعيره فتنادى القوم أن جاء المطلب بعبدٍ أبيض تعلوه ملامح الجمال والعزة ، فعُرف ولازال بعبد المطلب ، فلما رحل العم بعد أن بلغ الصبي مبلغ الشباب و الرجولة تولّى مكانه فكان سيد قريش الفيّاض ، وهنا عاش الابتلاء الأول ، حِين جاءه النداء احفر زمزم ، متتابعاً عدّة مرات حتى أيقن بأمر السماء ، بدأ الحفر ونظرات الاستنكار تحوطه وعبارات السخرية والاستهزاء تتفنّن في تثبيط عزيمته، لكنّه واجه ذلك الازدراء بالإصرار حتى نجح فعادت مياه زمزم هدية السماء إلى جدّه ، مصحوبةً بكنوز كان قد أُلقيّ بها في البئر قبل أن تُردم ، هنا تجمّع الباطل ليكون جبهة تطالب بتلك الكنوز التي استخرجها عبد المطلب وحده فرفض واستنكر ، وبعد أن أحسّ بالضعف نذر لله إن أُعطيّ عشرة من الولد ليذبحنّ أحدهم عند الكعبة قربة لله تعالى ، وتحاكم القوم فجاءت النتيجة لصالح عبد المطلب لتكون الكنوز من حقه فقدم خمسها للكعبة هديةً منه.
ووُلِد العشرة ، عشرة من الولد وستٌ من البنات ، وبلغ الولد مبلغ الرجال ، فكان الابتلاء الحقيقي أينفّذ شيبة الحمد نذره ؟؟
أم يتنصّل مثله عن الأداء حتى لو كانت فيه روح أعز ولده ، لكن قريش هي من وقفت في وجهه هذه المرة حبًا في عبدالله التي اختارته القرعة ، وبعد الأخذ والرد والتشاور جاء الفرج بأن يوضع قدح (سهم )باسم عبد الله وآخر بعشرة من الإبل وزيدت قداح الإبل حتى بلغت المائة فجاءت القرعة على الإبل فأتمّها للمئة والعشرين فنُحرت جميعها فداءً لعبدالله فأكلت منها حتى الجوارح على رؤوس الجبال.
لكنّ تلك الفرحة لم تدم طويلًا فها هو عبد الله يلفظ أنفاسه الأخيرة في يثرب ، قبل أن يرى وليده النور ، أيّ غصّة عاشها عبد المطلب وهو يرى قصته تتكرّر مع حفيده ، ولتكتمل فصول تلك الشدّة (المأساة ) جاء أبرهة الحبشي بجيشه الجرار تتقدّمه عدة أفيال ليهدم الكعبة فيمنع الناس من الحج إليها ،واستولى في طريقه على كل ماالتقى به من قطيع لقريش ، فتجلّى في تلك اللحظات العصيبة إيمان عبد المطلب الذي توجّه إلى أبرهة مطالباً إياه بماشيته ، فاستنكر أبرهة ذلك الطلب الغريب وهو يقول :قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حتى كلّمتك، أتكلّمني عن مائة بعير أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟ فرّد عبد المطلب بتلك الكلمات الخالدة *أنا ربّ الإبل وإنّ للبيت ربًا سيمنعه* ،فرّد أبرهة على عبد المطلب الإبل فانصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرّز بالجبال والشّعاب تخوّفًا عليهم من معرّة الجيش فقد كانوا أكثر من قريش عددًا، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفرٌ من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجيشه، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هُمَّ إنّ العبد يمـ _نع رحله فامنع حِلالك
لا يغلبنّ صليبهم _ ومحالهمِ غدوا محالك
إن كنت تاركهم وقبـ _لتنا فأَمرٌ ما بدا لك
فلما همّ أبرهة بالهجوم بركت أفياله كلما وجّهها إلى مكة ، وجاء نصر الله، أرسل عليهم طيرًا أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طائر ثلاثة أحجار، واحد في منقاره واثنان في رجليه فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس لا تصيب أحدًا منهم إلا هلك.
قبل رحيله رأى بشارة سيف بن ذي يزن تتحقّق في حفيده المبارك فكان يحبّه ويقرّبه ويجلسه إلى جواره في مجلسه مقابل الكعبة الشريفة وفي أيامه الأخيرة كان كثيراً ما يوصي ولده أبا طالب بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) قائلاً : *يا بُني! تَسلّم ابن أخيك ، فأنت شيخ قومك وعاقلهم ، ومَن أجدُ فيه الحِجى دونهم ، وهذا الغلام تحدّثت به الكهّان ، وقد روينا في الأخبار أنّه : سيظهر من تهامة نبيٌّ كريم ، وقد رُوي فيه علامات قد وجدتها فيه ، فأكرِم مثواه واحفظه من اليهود فإنّهم أعداؤه فأجابه أبو طالب : قد قبلت ، واللهُ على ذلك شاهد . ثم مدّ يده إليه ، فضرب بها على يد ابنه أبي طالب قائلاً : الآن خُفّف علَيَّ الموت ، وودّعه عبد المطّلب وهو يقبّله قائلاً: أشهد أنّي لم أر أحداً في ولدي أطيب ريحاً منك ولا أحسن وجهاً*
دولة الباطل ساعة وإن طالت أيامها وامتدّت سنواتها ودولة الحق أمدها إلى قيام الساعة ، فبنصر الله تفرح قلوب وتطمئن نفوس ، وتفزع أخرى وتستكين ولا تأمن مكر الله بالظالمين .
جاءت ذكرى رحيل سيد مكة لتذكّرنا أنّ للظلم نهاية وللطغيان حدّ، وفي خضم هذه الأيام التي نعيش فيها فرحة سيدتنا الزهراء عليها السلام ، وعودة الابتسامة إلى ثغر مولانا امير المؤمنين عليه السلام التي فقدها لسنوات وسنوات ، وفرح الموالين بتحقّق العدالة في الظالمين من الأولين والآخرين وإلى أن تتجلّى العدالة بأبهي صورها على يديّ حفيد عبد المطلب ذلك الامتداد الغيبي الذي تُملأ الأرض على يديه عدلاً وقسطاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق