بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 8 ديسمبر 2018

ذِكرى بَاذِخة


*|| ذِكرى بَاذِخة ||*
فاطمه عواد

*كم من الرسائل تعجّ بها ذاكرتنا الفارهة ؟*
*لابد وأنك تفكر معي الآن .. وعلينا أن لانتوقف على أي حال ..*
*عند أيِ منها يستحق أن نقف لنشعل فتيل المناغاة ؟؟*

يقال بأنّ مفهوم التفكير من أكثر المفاهيم غموضاً ، وأشدها استعصاءًا على التعريف ، ذلك يرجع إلى تعدّد وتعقد الخطوات التي يمرّ بها ، يذكر أحد أرباب اللغة أنّ التفكر هو تصرّف القلب في طلب معاني الأشياء وَ التفكير إعمال العقل في مشكلة للتوصّل إلى حلّها ، فكأنّ مدلول الكلمة في اللغة يبيّن أنّ التفكّر عملية يتوجّه فيها الذهن إلى شيء ما بغية معرفة كنهه .

ورد في الأثر *( كثرة النظر في الحكمة تُلقِح العقل )* ، وَ مما قِيل : *( لا ينمو العقل إلا بثلاث : إدامة التفكير ، ومطالعة كتب المفكرين ، واليقظة لتجارب الحياة )* ، *(خذ الحكمة حيث انتهي الآخرون لأنك لن تعيش طويلا لكي تتعلم كل الأخطاء )* .

لنسلك أنا وأنت طريق الحياة ، لابد أن نقف عبر محطات ربانية تُقَوِم هذا المسير وتشُد من صلابة عوده ، فَتُعطي بذلك أكبر دافعية نحو صعود القمم مهما استطالت علوًا ، فالعالم سيفسح الطريق أمامنا مادامت الوجهة معلومة ، مدروسة وَ واضحة كشمس الأصيل في إشراقها .

هذه الأيام نقف لنقطع تذكرة الدخول عبر الزمن ، لنشهد قمة فارهة ، اشتعلت و أشعلت فأضاء ماحولها ، أَعْطَى كثيرا  وَما أَكدَى ، سيد جليل عاش داراً بسيطة ، لا تختلف عمّا كان يعيش فيه أجداده الطاهرون ، مُعرضاً عن الكماليات والزخارف ، لم يكن طعامه يتجاوز ربع قرص من خبز الشعير ، مع شيء من البصل والملح ، وَ أحياناً شيء من الجبن ، دائم الوضوء ، مداوماً على الرياضات الروحية ، عاشقًا للحسين مُولعًا بأيامه ، ذُو علقة خاصة بأمير المؤمنين , مواظبًا على إقامة مجالس دعاء كميل وإيصال ما أمكنهُ من خلالها .

إنّه *( شهيد المحراب)* السيد عبد الحسين بن السيد محمد تقي بن السيد هداية الله الحسيني الشيرازي الملقب ب(دستغيب) ، الذي كان مصداقًا لما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله : *( العلم وديعة الله في أرضه ، والعلماء أمناؤه عليه ، فمن عمل بعلمه أدى أمانته ، ومن لم يعمل بعلمه كتب في ديوان الله من الخائنين )* .

من أبرز ملامحه ، كثير الحب للناس ، يخالط أفراد الطبقة الثالثة من المجتمع ، مسارعًا باستمرار إلى إعانتهم ، وحلِّ مشاكلهم ، له أسلوب متميِّز مع مخالفيه ، فلم يكن يسمح لأحد أن يتناولهم بكلام بذيء ، بل كان أحياناً يثني عليهم مثيراً استغرابهم ، يمشي متناغما مع الآية الكريمة *{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}*
سورة فصلت الآيتان (34 - 35)

بلاشك إنّ الإبتعاد عن حمل الهموم أقرب لراحة النفس , وإنّ الخلوة لمناجاة الحبيب والتفرّغ للصلاة والدعاء وتلاوة القرآن أمر جميل ، لكن هل يعتبر ذلك حل مثالي وكل ماحولنا يستغيث ويطلب الحركة والنشاط وبذل الجهد لنصرة الدين ؟؟

لقد أبلى الشهيد دستغيب بلاءًا حسنًا عندما لم يبتعد عن حمل هموم مجتمعه ودينه بل ولم يتخل عن مسؤوليته حيث مكامن الخطر بحجة إصلاح النفس وتربيتها وتهذيبها ، إنما أصلح ذاته من خلال أداء التكليف بحضوره الدائم في ساحة المجتمع ومواجهة الأحداث أولا بأول ، أسوةً بسيرة مولاه الأمير : *( مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً ْ فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ، وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ )* .

فنجد هذا الشهيد العظيم انموذجا يحتذى ويطرق الأسماع  ، فقد أنهى مرحلة المقدمات والسطوح في سن الطفولة لِمَا كان يتمتع به من الذكاء ، وأصبح إماماً لمسجد باقر خان في شيراز ، وأخذ يمارس الإرشاد ، بعد سنين من الفقر وشظف العيش ، هاجر إلى النجف الأشرف في سنة 1935 ميلادي ليواصل دراسته الحوزوية عند مجموعة من الأساتذة البارزين مثل : آية الله كاظم الشيرازي، وآية الله أبي الحسن الاصفهاني، وآية الله الميرزا الإصطهباناتي، وآية الله القاضي الطباطبائي ، عندما بلغ سن الرابعة والعشرين حاز على درجة الاجتهاد ، وأيّد اجتهاده ثمانية من العلماء الأعلام آنذاك .

خلّف من ورائه مجموعة من الشهادات التي تشيّد باجتهاده , وثلة من الكتب أعظمها نفعًا ، ككتاب التوحيد والذنوب الكبيرة والقصص العجيبة وغيرها الكثير ، بالإضافة الى الكتب العلمية كالحاشية وشرح الكفاية والرسائل ومطالب أخرى حتى أنّه لم يفكر بطباعتها ، فلم يكن يقبل بنشر رسالة عملية تخصه رادًا بذلك على من طالبه بطباعتها : *( بحمد الله يوجد الكثير من السادة ولاحاجة لرسالة توضيح المسائل جديدة خاصة بي )* .

وَ كعادتها خفافيش الظلام تعيش في غفلتها ، تتربّص الدوائر لتفتك بأعاظم المفكرين ، وهيهات لنورهم الوقّاد أن يطفأ فهم باقون ، خالدون بخلود ماقدّموا لدينهم ومذهبهم ، وَ قد أجمع البرهان على ذلك ، حين خرّ الشهيد السعيد ملطخًا بدمه وهو في طريقه لأداء صلاة الجمعة فأضحى ( شهيد المحراب ) ، *أفلا يولد من رحم الحياة دستغيبٌ آخر يُجسد مفاهيم مايُمليه على الناس مُمهدًا بذلك ظهور إمام زمانه عجل الله تعالى فرجه ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق