بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 9 ديسمبر 2017

قراءة في فكر الدكتور شريعتي (الحر إنسان بين خيار الفاجعة والفلاح)

قراءة في فكر الدكتور شريعتي
(الحر إنسان بين خيار الفاجعة والفلاح،54ص)

يرسم القدر لوحةً من الحسن والأناقة في موجودات عجيبة أُبدع الخلق فيها..
صخورٌ وأزهار، طيورٌ وحشرات،دواجن وآدميين، رتابة في تشابهها...الاّ ماخرج عن دائرة المألوف ليحضى بصنعةٍ خاصة تشذ عن النمط العام ليلقى الوجود بفن بديع يتغنى بشعر، او يخلق أثراً فينا،  او يجسد ذوقاً مرهفاً وجمالا فتانا...
كمنتج استهلاكي في قالب مميز مجسداً الاصالة، فريد في نوعه تحت مفردتين ( الشخصية)  و ( الكمية)
شخصية تتفرد وتتميز كمثل اعلى في الاعم الاغلب...
ك (كوه النور)  بين الجواهر و ( ذو الفقار) بين السيوف،و( الكعبة)  بين البيوت...  وهكذا

و ك (الحر) بين الشهداء...

كانت مقدمة الكتاب مميزة بتميز بطلها ( الحر)

لو أردنا عرض قصةٍ في المسرح لابد لنا من تنسيق فني متكامل في كيفية الاخراج واحكام الرواية على أفضل مايكون لتخلق فينا أثراً لايغيب...

الحديث كان عن الاختيار... حيث هو ارفع تجليات الوجود الإنساني،، بل هو معنى الانسان وفلسفة وجوده، وفي الوقت ذاته يعتبر من اشق المسئوليات...
يدور الانسان في محاور حياته حول الاختيار... 
اشق واثقل اختيار هو... ( الحق أو الباطل)

وقع الحر بين هذا الخيار ( الفاجعة او الفلاح) ولابد ان يختار كيفية كينونته  ولكن بأي ثمن؟ ( البقاء او الفناء) لذاته!
لم تكن هناك نقطة ( الوسط) بين القطبين
وقد أُلقي به في خضم الفاجعة غارقاً فيها...  بل هو أداة الفاجعة... ( الضابط المنتخب) للجيش الذي جاء من قصر الفاجعة ليكر على كوخ الامة ويطفئ مصباح الهدى ويحطم سفينة النجاة ويشعل النار في مخيم الفلاح بأمرٍ من قصر الفاجعة...
اول من قطع الطريق على مسيرة الفلق بأمر من الغاسق وجاء بحراس الامامة والعدل الى مصارعهم في كربلاء بوسوسة الخناس ...  هو ذاته القائد الذي اختار الفلاح...!
لم يستغرق زمان الاختيار عمراً من التجربة أو التأمل أو الوعي التدريجي،،إنما تمّ في ساعة من نهار ( صباح عاشوراء)
تمّ في اخر الفرصة، ذروة الامر،الدقائق المؤلمة المليئة بالاضطراب... 
ليظهر التناقض والتضاد بين القطبين لتكمن قوة الاثارة والتأثير أقصى مداها...  فيجسد باختياره اعمق مفاهيمه ( المفاهيم الالهية و المفاهيم الشيطانية) 
شخصيات ليست خارقة للعادة او من عالم الميتافيزقا او غلبت عليه الصبغة الملكوتيه كالانبياء.

فحوى القصة لإنسان يملك قدرة عجيبة في تغيير نفسه بصورة ثورية متخلياً عن خصاله الطبقية، الاجتماعية، والموروثة...
فالتاريخ الاسلامي هو من اغنى الثقافات واكثرها حيوية ومعرفة واقواها سندا وواقعية وهو مليئ بالمتضادات والتجارب والصراعات والحوادث والاحاسيس والقيم الانسانية...
من التيارات المتضاده...(الوجة الاموي والوجه العلوي)
كلاهما مظهراً واضحاً لقطبه...  فهو المسرح الذي وقع فيه اختيار بطل القصة( الحر)...

في حادثة تاريخية، وقعت مابين يزيد والحسين،،  شخصياتها ذات وجود حقيقي في عالم الواقع في زمان ومكان معين...
الدور الذي تحمله كل شخصية تاريخية هو الذي يعكس قيمة وجودها اما الاسماء مجرد الفاظ تطلق..
اختيار الام اسماً لوليدها ينم عن ذوقها،  ربما يكون حدساً للدور الذي سيتقلده أومصير قدره..
( الحر)  طفل سيصبح محط الانظار في الثورة الانسانية...
( انت الحر كما سمتك أمك، انت الحر في الدنيا والاخرة) 
رقي، تكامل، مثّل اعلى فلسفة لوجود النوع الانساني اعظم رسالاته الالهية... شكلاً ومحتوى ومعنى...
فصاحة وبلاغة فائقة لاتقوم بالذهن واللفظ  بل بالمحبة والدم ( كل انسان هو حر) 
التضاد في تاريخنا بين ( المعروف والمنكر)  ( الله والطاغوت)  (الشرك والتوحيد)
يبدأ التاريخ بالحرب وينتهي بالحرب ( من قابيل وحتى امام العصر)
حرب يستشهد فيها الإنسان المحق في اعتداء الانسان المبطل بدافع الطمع ليؤخذ بثأر المظلوم في آخر الزمان وتنتصر المساوة والأخوة والسلام.. 
ثورة مسلحة تزيل حكومة السفياني وتقضي على مؤامرة الدجال وتكون النهاية ( الأرض يرثها عباديّ الصالحون)
معركة دائمة في كل عصر وجيل في اي نقطة على وجه الارض في سبيل الله او الطاغوت لا ينفكان، يتقابلان داعين الناس لنصرتهم ( وجه حسيني ووجه يزيدي)
عملية جذب لكلا القطبين تردد، تذبذب، حيرة،،  وقف الحر يسمع صوت امير يصيح ( يا خيل الله اركبي)  وفي الجانب الاخر امام ينادي ( هل من ناصر ينصرني؟) 
ولا مفر من الاختيار..
وهو أمام ثلاث طرق لاغير :
- الالتحاق بخيل الله واشعال النار بمخيم الحرية والفوز بملك الري..
- واما ان تأبى احتمال هذه البشاعات والدنايا وتنهض بالحمل الثقيل لتفر بنفسك من حريق جهنم وتسلم بدنك للجنة تطأطأ هامتك عند مقام الحقيقة القدسية وتلبي دعوة الامام
- واما ان لاتكون لهؤلاء ولا الى هؤلاء تعتزل المكان،غير مكترث بما يحدث.. متقوقعاً على نفسك ( تنكب على الشراب او تنهمك في اقامة الصلاة) كي لاتكون شاهداً على عاشوراء، تغيب عن الساحة بسحر الافيون او العبادة وتخادع نفسك بالعلم والدين والانتشاء... 
هيّ طرق ثلاثة مشرعة امام قدمي كل انسان:. ( الخباثة)  ( الطهر) ( الفراغ)
اذا وقفت...  فوقوفك بلا ماهية لابد ان تختار طريقاً وتسير وبالتالي تختار نفسك وتعين ماهية وجودك..
يتلقى الانسان الوجود بالولادة،،  ويتلقى الماهية بالاختيار
كما يقول هايدجر.. الانسان وجود يخلق ماهيته
ولولا الماهية لكان الانسان لامعنى له
( القلق) هو وليد وعي الانسان لوجوده،،  احساس عميق بعظمة هذا الاختيار المصيري قد احس به الحر ليجد نفسه على عتبة الولادة،  يرى نفسه وحيداً لابد ان يحمل عبء المسئولية..
فالاختيار كما يقول سارتر مشقة الانسان العظيمة لذلك يبحث البعض عن الغفلة او النسيان بالتخدير او السُكر لشل الوعي والشعور في انفسهم..
وقد اطلق الله والطبيعة يد الانسان وفوض امره لنفسه...
قلق وألم ساورا نفس الحر في تلك الساعات الثقيلة في صباح عاشوراء،، هل يولد ( حر يزيدي  او حر حسيني)  ترقب الانفجار فلا مجال للغفلة في السباق الفدائي ليثب من سجن ابليس ويلتحق بالله... هل يبقى مأمور مأجور مسلوب الارادة ويعتزل السباق الى عمر من الحقارة وتسقط قيمته ليكون ( أحد ادوات الجاني من عصا وحذاء ونظارة وغداره وسوط) 
لم تغب هذه الفرصة عن الحر فهو احرص عليها وهاهو التاريخ يخصه بأجمل واعظم اختيار...
لكن ورغم ذلك لايمكن سبر اعماق الالم وشدة القلق الذي خالطه لحظتها ( البطل الشجاع كان شديد الحيرة )كليلة القدر تصنع المصير وتخلق القيم فيها،، وهاهو فجر الحرية واليقين ينتشل الحر من مخالب يزيد ويلقي به في رحاب الله وعلى نحو الخاطف من السرعة..
كان يأمل ان يؤول الامر الى تسوية،،  الحوادث تمر سريعة ليكون الانسان مستعداً لحمل العار..  الا من رُزق الوقاحة نبوغاً وفي الدناءة بطولة جعلتهم مستعدين لتحمل العار الى ما لانهاية.   
كان الحر فارس الطريق ومجرى الحياة ومقتضى الظرف قاده فيه من حيث لا يشعر...  كان يرى ذلك شغلاً يتعاطاه ووسيلة معاش لا تتنافى مع الدين ولا يرتبط بالسياسة...
كانت اللطمة الاولى ليستعيد نفسه ويحقق مايأمل في نفسه لابد من تقويم ( المسئولية و المشغولية) 
كان يود ان يحفظ شغله وشرفه ولكن التضاد بين الحق والباطل ضيق المجال فالجمع بين الغايتين مستحيلا..  فقام بأخر محاولة ميئوس منها للسلام او التسوية بمحاورته مع ابن سعد الذي كان لايريد الحرب وقد قبل به املا في امارة الري وان كان الثمن ابادة بيت الرسول وتلويث سمعة اسرته..
كانا في مركز اجتماعي واحد وتبعية سياسة واحده واتجاه روحي وانطباع فكري واحد عن القضية...  كارهين ان يكونا الجلاد في هذه الحرب
وكان الفارق بينهما في ( الاختيار)
وجد الحر نفسه تحت سماء تصدعت على رأسه،  كان التردد يعشش روحه،  حتى عندما قطع الطريق على الامام،  كان آلة تنفيذ الاوامر في قبضة امير الكوفة.. 
لم يكن كابن سعد ابن الصحابي المشهور ذو الشخصية البارزة والفاتح الاسلامي بتعاونه مع الحكم الاموي وعلمه لأي سلطة يخدم... والثمن الذي يريد..!
الحر...  امرءٌ عادي غير واعٍ ولا عارفٍ بمجريات ظروفه السياسية والاساسية... ساقه القدر للدخول في هذه الخدمة بمؤهلاته الفردية لا غير...  ( مقام عمل لا انحياز للسياسة او الدفاع عن الحكم الاموي..) 
كان يمتلك ميلاً للسلام وعدم المتاجرة بالدين والتلاعب به من اجل الدنيا ليفترقان بقبول احدهما وخوف الاخر...
كان الحر..   تعذبه رؤية الوجوه، يراها كالاشباح تحدق فيه،  اصبح لايطيق الجمع الغفير وتقطعت صلته بهم،  احس بتغير عميق في فطرته،  اخذ يخلق ماهيته ويكتشف وجوده،  استشعر الغربة والبعد عن اقربائه..  ( وجودهم بلا ماهية او معنى) كانوا..  أعداداً فقط!!
طراز واحد لامحتوى لهم،، شغلوا من البسيطة مكاناً واسعاً، ضجيج وعجيج ( كاريكاتور انسان)
انعكاس لوجود سيدهم...  هم جميعاً احذيته، سيوفه،  تروسه،  خدمه، انهم لا شي...!
هم احقر من ان يُلعنوا...
موجودات متعطله باطلة غير ملتزمه..  اصحاب الوجوه المزيفة...مهما كان ثمنهم او مدى تقربهم من السلطان، يتفاوت شأنهم، الا انهم في اللاإنسانية سواء...
(مقلب القلوب والاحوال) يصنع ثورة عجيبة مسيح الوعي والمحبة يعيد للاعمى بصره ويحيي الميت.. ( من جلاد يزيد الذي جاء، يصوغ شهيداً للحسين)
استعرت نار الحرب في صدره رغم هدوء الميدان، اعماقه تتلظى بدأ من اعماق الارض المظلمة لا سطحها..  مكان تعششت فيه الابالسة والشياطين..
من اين؟  والى اين؟
معراج الحر الى سدرة المنتهى واسراءه الى مسجد الحرية...  مهاجراً عظيماً ( الهجرة الكبرى)  هي... الشهادة
من بيت اصنام الشرك لمدينة الشهادة،،  نصف نهار،  احتاج لتصميم وبضع خطوات مسافة طولها طول الابد،، طريقها من الشيطان الى الله...
هي جولة خاطفة بلا تدرج او مقدمات لم يستغرق وقتاً في تزكية النفس او التوسل وطلب الشفاعة
اكتشف الحقيقة وتبينت الهداية وفهم التوحيد الحق،  احس بالمسئولية وعين التكليف فحظى بالتوفيق في العمل...
فقط...  ( غيّر الجبهة لا اكثر ولا اقل)
فالجهة هي التي تعطي الانسان لكل شي معنىً أو تجعله بلا معنى...
ثوريا في اختياره، مبادراً للتغيير...
كل انسان سهم اشارة والحر صباحاً كان سهم اشارة ليزيد وبعد الظهر اضحى سهم اشارة للحسين..
ابتعد قليلاً قليلا حتى جاز المشرعة فظن القوم انه يريد الحرب...حتى ارتاب الجميع فهو اشجع اهل الكوفة...  فقال: اني اخير نفسي بين الجنة والنار.  والله لا اختار على الجنة شيئاً،  ولو قطعت واحرقت...!
تكاملت الخلقة،انتهى به قلب الاختيار الى لذة الطمأنينة،ووضوح الاخلاص واليقين
مضياً بخطوات ثابته بلا تردد
جعل روحه سهماً يرمي به اعداء البشرية ليصبح حد ( حرية الانسان)
طأطأ الضابط المغرور،  فالعظمة هنا في الخشوع..
معتذراً مسلماً...  انا الذي جعجعت بك يا حسين..
شوقاً للشهادة
القى قناعه السابق،القبيح الاسود،يجلو نفسه امام العدو والصديق،امام الوجود كافة،أمام الله،أمام نفسه... في صورة جديدة اجمل واجلّ صورة إلهية في الانسان...
( لن اكون، بعد اليوم، عبداً للقوة ولا أجيراً للظلم،بل أنا انسان حر..!) 
( اني انا الحر)
( وها انا ماضٍ الى الشهادة)
استثار عمر بن سعد فرد عليه ان  اطلق سهماً على معسكر الحسين.. وصاح..( اشهدوا لي عند الامير اني اول من رمى) 

وهكذا بدأت واقعة عاشوراء.....

سلمى الدخيل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق