*زوّادة البقاء*
بقلم:زينب غلاّب
عيناه السادرتان في البعيد..
تُفصح عن نبوءةٍ مرتقبة..
وكمن يُبصر رأيّ عين..
أشار السيد الجليل بمعصميه..
أن هاهُنا..
[مصارع عشّاق شهداء…. ]١
لكن بلا نظيرٍ سابق..
أو شبيهٍ لاحق..
وفي الغد القريب..
أذّن العشق..
على أرض السواد..
وابتدى نُسك العاشقين الأوفياء..
وتجلّت(إنما يعرف الله عزّ وجلّ ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منّا أهل البيت حقاً)٢
فتسابق القومُ العارفون..
ظهيرةَ الفلاح السرمدي..
بصفاتٍ وخصالٍ لامثيل..
وعيٌ في الموقف..
بصيرةٌ في الدين..
عُلقةٌ إستثنائيةٌ بالمعشوق..
وإستماتةٌ في الذود عن قيادة السماء..
يُظللهم رباطٌ قدّسي أوحدِّي..
هو السبط..
بوابةَ اللقاء٣..
وهنالك ارتسمت آياتُ عشقٍ..
في حسينٍ..
لحسينٍ..
مع حسين..
نيّفٌ وسبعون بها اكتمل النِصاب..
عندها وقف الوتر وحيداً للصلاة..
هاهُنا لم يكن ثمّة ماء..
فكان غُسل القرب تسابيح الدماء..
وقُنوتٌ برضيعٍ للفداء..
لاتسلْ عن سجود العاشقين..
لم يكن ثمّة رأسٌ للسجود..
فغدا المنحر الدامي أسمى للخشوع..
سُبحاتْ الذكر رفعتها زينب..
أن تقبّل قُربان طه ياإله العالمين..
لاتسلْ عن سجدةِ الشُكر..
على أرضِ البلاء..
تلك نجوى الصادقين العُرفاء..
وتجلّت(ماذا فقد من وجدك،وماذا وجد من فقدك)٤
لم يسعها الزمان..
أو يحويها المكان..
فكانت عُمراً بطولِ الأبد..
حِينها خطّت ملحمةُ العشق..
على أرضِ الفناء..
زوّادة البقاء..
بمدادٍ من دماء..
وانتهى النُسك العظيم..
وفي جانبٍ قريب.. ثمّة وجوهٌ عِدّة..جلّها لوّنها العشق.. رابطها الخوف أو الطمع.. وأن تكون على أرضٍ بذاتها..
صِبغةُ بعضها أحقادٌ موروثة.. وديدن البعض تزلفٌ وتقرب.. وإله آخرين درهمٌ ودينار..
وثمّة هيئاتٌ لاتمتّ للبشرية بصلة ،ظاهرها وباطنها سواء،لِسان مقالها (أعرفك حق المعرفة، أمك فاطمة الزهراء، وأبوك علي المرتضى، وجدك محمد المصطفى، وخصمك العلي الأعلى أقتلك ولا أبالي)٥
هيّ الأخرى عشقت بصدق.. وتفانت في الذود عن المعشوق..
هاهُنا تلاشت صورة الإنسان.. وحلّت قُرب الفُرات آياتُ الغواية..
سجد العاشقون تِباعاً..في محضرِ الهوى.. وارتسمت (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)٦..وذُبح بإسم العشق قُربان الآلهه..
عبّ القوم كؤوس النصر بثمل.. ورُفعت رؤوسٌ تحمل سيماء الصدِّيقين.. وانتهت حِكاية الثأر البغيض..
ولأنّ المعرفة كانت هي الدليل.. أدى الفريقان طقوساً كانت إحداها نقيضاً للآخر.. كلٌ حسب معرفته.. ومعشوقه الذي يتوقُ لقربه..
فاللّذة المتحصلة جرّاء ذياك الوِصال.. هيّ تمام الكمال حسب إِدراك العاشق للفانيات..
أمّا العلائق المعنويّة التي تُحلّق بالروح بعيداً في الماوراء فهي حقيقة الكمال الذي يتطلّع له السالك نحو الحقّ..تلك التي تتصاغر في قِبالها كل لذّة..
لذا كان من المفارقات العجيبة جداً أن يُتوّج المعسكران بالنصر.. وإن تباينت فصوله.. بين نصرٍ ظاهري،انكشفت أوهامه للبعض حين أبصر العذاب رأيّ عين.. في حين غرِّق الآخرون فيه وسايروا الظاهر الكاذب حتى فارقت الأرواح أجسادها..
لذا كان من عجيب ما يُنقل أن يتلو أحدهم أوراد الجهل عُقيّب كلّ صلاة "اللهم إني قتلت ريحانة الرسول بأمر والي المسلمين"٧..
أمّا الآخر فمثّل الواقع.. (ومن لم يلحق بي لم يُدرِك الفتح)٨..وإن غابت أبجدياته عن الأذهان.. فكانت تِيجانه رِضاً وتسليم..
إنّ سبّر أغوار مفردةٍ كالعشق متعسرٌ على أمثالنا خاصةً حينما ترتبط بمصداقها الأتم..فهي كوادٍ كلما سيِّر فيه ازداد عمقاً..مفردةٌ بعيدة عن أذهاننا التي تألف المادة وتأنس بالمحسوس..لذا سنقف بالقرب ليس إلاّ..
الميل القلبي نحو شيءٍ ما،هو مايُصطلح عليه بالحبّ،وهو ذو مراتب ودرجات،فإذا بلغ الأوج والمنتهى سميّ بالمصطلح البشري.. عِشقاً..
أمّا وحي السماء فقد عبّر عنه بالحبّ الشديد {والذين ءامنوا أشد حباً لله}٩..
(روح الله بين عباده)١٠..دوره الأساس الإلهام والتحريك والإمداد،وأن يكون هذا اللِباس البشري في هيئة الإنسان،كما أُريد له أن يكون..
رِباطٌ وشائجه أبدِّية،تسامت عن حدود البهيميّة الضريرة،لتكون مسلك التضحية..وعنوان الإيثار، شريطةَ أن تكون وجهتها في إطار الشرع القويم..
وهيّ تتوسط عنوانين عريضين..
كلاهما عميقٌ ودقيق..
بِذاره المعرفة.. (ياكميل مامنِ حركةٍ إلاّ وأنت محتاجٌ فيها إلى معرفة)١١وهي ميزان الأفضلية بين الناس،بل المائز الذي على أساسه تُسلب الحياة بمعناها الواقعي عن أحدهم أو تُنسب إليه،وعلى قدرها يكون العمل،فهي روحه وأصله (لايقبل الله عملاً إلاّ بمعرفة،ولا معرفة إلاّ بعمل فمن عَرِف دلّته المعرفة على العمل،ومن لم يعمل فلا معرفة له)..
وهي والحبّ أشبه بخطينِ متوازيين يمّتد أحدهما بامتداد الآخر وينعدم بانعدامه..
ولأنّ العلوم والمعارف متعددةٌ متشعبة،كان لكلٍ منها نافذةٌ يُتحصّل بها،ولكلِ نافذةٍ خصوصيّة ومِيزات،وحدٌ ليس بمقدورها تعديته..
الحس..طريق المادّة المحضّة..
العقل..ويختص بالدليل والبرهان..
القلب..منبع الإحساس،وإنْ شئت فقل.. مهبِط العشق،وهو أبعدُ مايكون عن المادّة، و لايُتحصل بطريقٍ عداه..
إنّ طريق الشهود عبر القلب أسماها وأشرفها، طريقٌ ركائزه الفطرة الكامنة في كلّ قلب،لكن بوّابة العقل في الغالب هي المدخل الصحيح للولوج فيه..
أمّا نِتاج المعرفة فهو الرضا،الذي يحكي تمام التسليم في واقع المؤمن، ذاك الذي لاتُمازجه كراهةٌ أو معارضةٌ أو شِكاية،فلا يكون إلاّ مايريده المحبوب،وماعداه سراب،وهو ذاته عين الجمال ومنّة الربّ لعبده،وهاهُنا أيضاً يكون الرِضا بقدرِ المعرفة،(إن أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله)١٣الصادق ع
وبين معرفةٍ سطحية وأُخرى عميقة،يقف الإنسان بين مفترق طريقين،أحدهما يمثل تمام الحقّ، والآخر يتجلى فيه الباطل بكماله..
تماماً كما وقف الحرّ..وهو فِي أوِّج الحيرة والانشداه.. كان محباً..وكان الكثيرون في معسكر الضلال.. كذلك مُحبون.. لكنها لحظةُ التفاته..
ترجّحت كفّة المعرفة فيها لديه.. تصاعدت المقاييس.. انقشعت الظُلمة.. فانقلبت الأمور رأساً على عقب.. ليُسلّم النفس بيّد إمام الزمان..
ولأننا نحيا في ذات الساحة كلّ حِين، وإن تباينت الكيفيات، فلنقرأ الواقع من حولنا..
اليوم ثمّة بونٌ واسع بيننا وبين مبدأ هذا الثالوث العظيم،أعني المعرفه بكنهها الحقّ،فترانا لا نُبارح نُكرر اسماً ارتسم في الذاكرة مُنذ الصغر..
نردّد ورداً حُفظ عن ظهر قلب،بنهاياتٍ متعددة جلّها يفتقد الجوهر والحقيقة..
طقوسٌ باهتة،أشبه ماتكون بالقِشر،لذا تخبّطنا في المسير،وابتعدنا عن جادة الطريق..
ولأنّ معرفة أهل كل زمانٍ إمامهم الذي يجب عليهم طاعته هيّ ذاتها معرفة الله تعالى،بنصِ إمامٍ معصوم..
هلّم نيمّم القلب..
صوبّ القريب رغم أستار الغياب..
صيّر لنفسك مساحةً خاصة،بعيدةً عن كلّ هذا الصخب،لتعيش معه وبه،زماناً لايتسع لأحدٍ سِواه،فهو لا عداه جِسر الوصال وقنطرة الفيض والاقتراب {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}١٣
لُجّ ساحة القداسة بتؤدة..دثّر القلب بأورادِ اللقاء..
"بنفسي أنتَ من مغيبٍ لم يخل منّا"١٤"بنفسي أنتَ من نازحٍ مانزح عنّا"
وكغريقٍ لُذْ بفنائه..ناجه بقلبٍ صادق.."هَلْ اِلَيْكَ يَا بْنَ اَحْمَدَ سَبيلٌ فَتُلْقى، هَلْ يَتَّصِلُ يَوْمُنا مِنْكَ بِعِدَةٍ فَنَحْظى، مَتى نَرِدُ مَناهِلَكَ الرَّوِيَّةَ فَنَرْوى، مَتى نَنْتَقِعُ مِنْ عَذْبِ مائِكَ فَقَدْ طالَ الصَّدى"١٥
مستمطراً وابل الرحماتِ..علّ قصعة الرجاء.. تصلك من يُمناه..
لكن حاذِر أن تقترب والجهل لمّا يُراوح قلبك..لأنّ الحبّ دون معرفة إنّما عاطفةٌ عمياء سيدها الجهل وقائدها الهوى لا ثبات لها ولا دوام تميل حيث يميل بها الهوى..
ولأنّ الرباط إلهيٌ مقدس.. شابه الحبيب في النقاء فالمسانخة بوّابة الاقتراب..
لذا طهر النفس أولاً..
ثم احمل زوَّادة الترحال..
فلا زاد كالمعرفة..
ولا دِثار كالحبّ..
المصادر:
١-قَالَ البَاقِرُ عليه السلام: (خرج علي يسير بالناس حتى إذا كان بكربلاء على ميلين أو ميل تقدم بين أيديهم حتى طاف بمكان يقال لها المقدفان (6)، فقال: قتلفيها مائتا نبي ومائتا سبط كلهم شهداء، ومناخ ركاب ومصارع عشاق شهداء، لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من بعده)بحار الأنوار/العلامة المجلسي، الجزأ ٤١.
٢-الكافي ج١ ص١٨١.
٣-(الأوصياء هم أبواب الله عز وجلّ التي يؤتى منها ولولاهم ماعُرِّف الله عز وجلّ وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه)الكافي ج١ ص١٩٣.
٤-دعاء الإمام الحسين ع يوم عرفة.
٥-البحار.
٦-الجاثيه٢٣.
٧
٨-(بعثَ الإمام الحسين عليه السلام إلى أخيه محمد بن الحنفية رسالة موجزة، يستقدم إليه من خفّ من بني هاشم، ونصها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومن قِبله من بني هاشم. أما بعدُ: فإنّ من لحق بي استشهد ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح والسلام)رحلة الشهادة/اللهوف في قتلى الطفوف.
٩-البقرة 165
١٠-(إنّ نبي الله داؤود ع سأل يوماً ولده سليمان ماأحلى الأشياء،ليختبر حكمته،فقال هي المحبة فهي روح الله بين عباده).
١١-بحار الأنوار/محمد باقر المجلسي ج74
١٢
١٣-آل عمران ٣١.
١٤/١٥-دعاء الندبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق